E N D
الوحده الاوربيه ضد المسلمين ::لم تعرف أوربا الغربية في هذا الوقت الوحدة بأي شكل من الأشكال، ولم يحدث منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية العظمى في سنة 476م -أي منذ أكثر من ستة قرون- أن تجمعت جيوش الدول الأوربية الغربية في معركة واحدة، اللهم إلا المساعدات التي كانت تقدمها هذه الدول -وخاصةً فرنسا- للممالك النصرانية في شمال الأندلس في حروبهم ضد مسلمي الأندلس.بل لم تعرف الدول ذاتها في ذلك الوقت الوَحْدة الداخلية، فكانت كل دولة أو مملكة مقسمة لعدة إقطاعيات، وعلى كل إقطاعية أمير يحكمها فيما يشبه الحكم الذاتي، وإن كان يدين بالولاء للملك الذي يجمع الإقطاعيات معًا، وإن كان هذا الولاء كثيرًا ما يكون ولاءً شكليًّا لا واقعيًّا.إن وضعنا هذه الخلفية في أذهاننا، فإننا سندرك أن تجميع هذه الإقطاعيات المتعددة في جيش واحد منظم سيكون أمرًا صعبًا جدًّا، بل إنه يكاد يكون مستحيلاً، وهذا سيعني أن الحملة الصليبية غالبًا ستكون مكوَّنة من عدة جيوش منفصلة، على رأس كل جيش أمير له أحلامه الخاصة، وله ولاءاته الخاصة أيضًا، وقد يحدث التعاون بين هذه الجيوش المتعددة في بعض المواقف، ولكنه -لا شك- سيحدث أيضًا التعارض والتشاحن بين نفس الجيوش، خاصةً أن الكثير ممن شارك في هذه الحملة الصليبية الأولى كان متنافسًا مع أمراء آخرين شاركوا في نفس الحملة؛ مما سيفرز مواقف ذات طابع خاص، كلها يثبت في النهاية أن المطامع الشخصية والأهواء الخاصة كانت هي الدافع الوحيد لخروجهم -أو على الأقل لخروج معظمهم- ولم يكن في اعتبارهم أبدًا الدين أو الكنيسة أو الصليب.
جيوش الحملة الصليبية الأولىوبالنظر إلى الجيوش التي كوَّنت الحملة الصليبية الأولى، نجد أنها عبارة عن خمسة جيوش مستقلة:1- الجيش الأول:كان الجيش الأول بقيادة الفرنسي جودفري دي بوايون GODFREY DE Bouillon وهو أمير لوثرتجيا جودفري البولوني، وكان بصحبته أخوه الأمير بلدوين، كما التحق بجيشه عدة أمراء آخرين معظمهم من فرنسا، وقد أعطت كثرة الأمراء في هذا الجيش صبغة خاصة من الأهمية له وكانوا في المعظم من منطقة اللورين شمال فرنسا، وكان في هذا الجيش أيضًا بعض الألمان والأمير جودفري بوايون وإن كان فرنسيًّا إلا أنه كان يدين بالولاء للإمبراطور الألماني القوي هنري الرابع، ولم يكن يدين بالولاء للملك الفرنسي الضعيف آنذاك فيليب الأول وكان جودفري بوايون يحرص على أن يكون قائدًا عامًّا لكل الحملة الصليبية، يؤيده في ذلك كثرة الأمراء في جيشه خاصة.2- الجيش الثاني :أما الجيش الثاني فكان جيشًا مهمًّا أيضًا؛ إذ كان على رأسه الأمير ريمون الرابع كونت تولوز والبروفنسال، وهو الجيش القادم من جنوب فرنسا، وكان هذا الجيش يكتسب أهمية خاصة لكون الأمير ريمون يعتبر نفسه -كما كان جودفري بوايون- أهمَّ قواد الحملة الصليبية. وكان الأمير ريمون أكبر الأمراء سنًّا، كما أنه كان من أوائل الذين استجابوا لدعوة البابا أوربان الثاني، بل إنه صاحبه في أكثر من مؤتمر لجمع المحاربين، وهو الذي قبل ذلك شارك في حرب المسلمين في بلاد الأندلس، وكان صاحب صبغة دينية واضحة، وكان مقربًا من البابا حتى إن البابا جعلَ في جيشه هو دون غيره ممثلَ الكنيسة أديمار أسقف لوبوي، وفوق كل ذلك فإن جيشه كان أكبر الجيوش الصليبية؛ كل هذه المقومات جعلت الأمير ريمون الرابع يطمع في أن تكون إمارة الجيوش العامة معه هو، وليس مع غيره
3- الجيش الثالثوأما الجيش الثالث فكان بقيادة الأمير روبرت دوك نورماندي الذي كان يصطحب معه زوج أخته ستيفن كونت بلوا، وكان هذا الجيش من غرب فرنسا في الأساس، إضافةً إلى جيش نورماندي مع الكثير من الفرسان الإنجليز.4- الجيش الرابعوكان الجيش الرابع فرنسيًّا أيضًا، ولكنه كان جيشًا صغيرًا، ويبدو أنه كان تمثيلاً شرفيًّا لملك فرنسا فيليب الأول، حيث كان على قيادة الجيش شقيق الملك شخصيًّا، واسمه هيو، وكان كونت قرماندو
5- الجيش الخامسأما الجيش الخامس والأخير فكان جيشًا خطيرًا ومهمًّا، وهو الجيش الإيطالي القادم من جنوب إيطاليا، والمكوَّن من المقاتلين النورمان الأشداء، وكان على قيادته الأمير الطموح بوهيموند ابن روبرت جويسكارد وكان هذا الأمير يطمح -كما كان جودفري بوايون وريمون الرابع يطمحان- إلى قيادة الجيوش مجتمعة، وكان يؤيِّده في ذلك أن جيشه هو أقوى الجيوش تنظيمًا، وأكفأهم عسكريًّا، وأشدهم قتالاً ثم إنه ابن روبرت جويسكارد، وكان من أقوى أمراء أوربا مطلقًا، وهو الذي استطاع إخضاع البلقان لسيطرته بعد أن هزم الدولة البيزنطية ذاتها ، كما أن لبوهيموند خبرة سابقة في حصار أنطاكية سنة 1081م، ومواجهة الدولة البيزنطية هناك. وكان بصحبة بوهيموند ابن أخته الأمير تانكرد، وهو من الأمراء الأشداء الطموحين أيضًا، كما اصطحب أيضًا عددًا من الأمراء النورمان الأكفاءوهكذا نجد أن الجيوش الصليبية لم تجمعها قيادة موحَّدة، بل كان القواد من البداية يتصارعون على القيادة العامة، كما أن كل واحد منهم كانت أحلامه الخاصة تراوده في التوسع والتملك.
كان أول الجيوش الصليبية تحركًا ووصولاً إلى الدولة البيزنطية هو الجيش الرابع الصغير، ولكنه كان تعيس المصير؛ إذ سلك الطريق البحري، وأصابته عاصفة شديدة بالقرب من سواحل الإمبراطورية البيزنطية، فهلك الكثير منه، وأنقذت فرقة من البحرية البيزنطية بقية الجيش وقابل الأمير هيو الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين، ولم يكن عجيبًا في مثل هذه الظروف أن يُقسِم الأمير يمين الولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي كما أقسم على أنه سيبذل كل جهده لتحرير البلاد التي أخذها المسلمون من سلطان الدولة البيزنطية.ولم يكن هذا الجيش -كما هو واضح- مؤثرًا بشكل من الأشكال في خط سير الأحداث.أما الجيش الذي وصل بعد ذلك فكان الجيش الأول، وهو جيش جودفري بوايون، ونحتاج إلى وقفة مهمة مع هذا الجيش.لقد سلك هذا الجيش الطريق البريّ الذي سلكه قبل ذلك بطرس الناسك ووالتر المفلس وبقية الحملات الشعبية وبالتالي فسيمر على المجر وغيرها من المناطق التي تحمل ذكريات مؤلمة للأوربيين الغربيين، وقد تصطدم هذه الجيوش مع ملك المجر القوي كولومان؛ مما قد يعطِّل مسيرتها ويبدِّد قوتها؛ لذلك قرَّر جودفري بوايون في ذكاء شديد أن يعقد اجتماعًا
مهمًّا مع ملك المجر على الحدود الألمانية المجرية وقبل أن يدخل الأراضي المجرية؛ ليعقد معاهدة مع هذا الملك يضمن فيها عدم المساس بأية ممتلكات، وعدم إيقاع الضرر بأي إنسان مجريٍّ، ولكي يطمئن ملك المجر إلى وفاء الأمير جودفري فإنه قرر أن يترك أخاه الأمير بلدوين رهينة عند ملك المجر لحين عبور الجيش الصليبي، كما أصدر جودفري الأوامر المشددة لجيشه بعدم القيام بأي عمليات سلب أو نهب في المنطقة.وهكذا عبر الجيش الصليبي الأول مملكة المجر بأمان، ثم عندما دخل إلى الأراضي البيزنطية قابل وفدًا للإمبراطور البيزنطي، وذلك فيما بين بلجراد ونيش، وتعهد لهذا الوفد أيضًا بعدم المساس بأية ممتلكات بيزنطية، وفي المقابل تعهدت الإمبراطورية البيزنطية بتقديم كل ما يلزم الجيش الكبير من تموين ومساعدات حتى وصولهم إلى أرض المسلمين ثم أكمل الجيش الصليبي طريقه حتى وصل إلى شاطئ بحر مرمرة عند مدينة سليمبريا البيزنطي وذلك في (489هـ) منتصف ديسمبر 1096م، وهناك فَقَد جودفري بوايون السيطرة على جيشه الذي لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام ثراء المدينة، فقام الجنود بسلب المدينة ونهبها وكانت هذه الحادثة علامة إنذار واضحة للإمبراطور البيزنطي تخيفه من هذه الجنود التي أتت من غرب أوربا، ووقف الإمبراطور البيزنطي يحلِّل الموقف بدقة.
إنه لم يأت بهؤلاء الجنود إلى هذا المكان، ولم يستنجد بالبابا إلا ليدفع خطر المسلمين، ويعيد امتلاك ما أخذ منه على مدار السنوات القادمة، وعلى هذا فالذي كان في حساباته أن هذه الجيوش ستكون كالجنود المرتزقة الذين تعوَّدت الإمبراطورية البيزنطية على استيرادهم قبل ذلك، فهم سيقومون بمهمة ثم يأخذون أجرهم، وينتهي بذلك دورهم.أما ما رآه الإمبراطور البيزنطي من آثار الحملات الصليبية السابقة، ومن جيش جودفري بوايون الآن فشيء يدعو إلى القلق العميق؛ لأن هذه الجموع التي جاءت بنسائها وأولادها جاءت لتستقر، كما أنها لا تحسب حسابًا للدولة البيزنطية العظمى. ثم إن الجيوش الصليبية النظامية كبيرة وقوية، وهذا الجيش الأول بقيادة جودفري جيش محترف، وله بأس وقوة، فكيف إذا اجتمعت الجيوش الصليبية كلها؟!ثم إن الإمبراطور البيزنطي استرجع بذاكرته قصة المغامر النورماندي رسل دي باليلRoussel de Bailleulالذي كان من الجنود المرتزقة المأجورة مع فرقته الإيطالية لدى الإمبراطورية البيزنطية، ثم ما لبث أن أعلن عصيانه سنة (465هـ) 1073م على الدولة البيزنطية وحاربها وأنزل بها ضررًا بالغًا، ولم تنته قصته إلا بفَقْد عدد مهم من المدن البيزنطية أخذها السلاجقة المسلمون بعد الاتفاق مع الإمبراطور البيزنطي على التخلص من رسل باليل في مقابل أخذ ما يسيطرون عليه من المدن، وإذا كان رسل باليل قد أحدث كل هذا الضرر بثلاثة آلاف مرتزقة كانوا معه، فكيف سيكون الحال مع جيش كجيش جودفري، أو المصيبة الكبرى لو اجتمعت الجيوش الصليبية كلها على أمر واحد.لذلك قرر الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين أن يتعامل بالحزم من أول الأمر مع جودفري، كما حرص كل الحرص على إنهاء مشكلته قبل أن يأتي جيش صليبي آخر فتزداد المشكلة تعقيدًاتُعرَف باسم حملة الأمراء، وقد بلغ تعداد الحملة مليون صليبي، وهو أكبر رقم في التاريخ الإسلامي حتى الآن.
فألقى البابا أوربان الثاني خطبة مثيرة في مدينة كليرمونت الفرنسية في (26 من ذي القعدة 488هـ= 27 من نوفمبر 1095م)، دعا فيها إلى القيام بحملة إلى الشرق والاستيلاء على بيت المقدس من المسلمين، ووعد المتطوعين في الحملة بحياة أفضل في الدنيا، وبغفران الذنوب إن ماتوا في ساحة القتال.فاستجاب لهذه الدعوة جحافل من العامة والفلاحين والرعاع وقطاع الطرق واللصوص، وهي تمني نفسها بالحياة الناعمة والخير الوفير، متأثرة بالدعاة الذين جابوا أوروبا لإثارة حماس الناس، وحميتهم الدينية، وكان "بطرس الناسك" و"والتر المفلس" من أبرز هؤلاء الدعاة، وعرفت هذه الحملة في التاريخ بحملة الرعاع، وارتكبت أثناء سيرها كل الموبقات من سلب ونهب وقتل واعتداء على الأعراض، حتى وصلت إلى أبواب القسطنطينية، فسارع الإمبراطور البيزنطي إلى نقلهم عبر مضيق البوسفور إلى آسيا الصغرى، وتخلص من شرورهم، وقابل السلاجقة هذه الجحافل وأوقعوا بهم هزيمة قاسية.
وبعد الفشل الذي مُنيت به الحملات الشعبية الصليبية، بدأت التحضيرات للقيام بحملات صليبية منظمة يقودها الفرسان والأمراء، ومزوَّدة بالمؤن والسلاح والعتاد، وتألفت الحملة الصليبية الأولى من أربع جماعات، واحدة منها بقيادة "جودفري دي بويون"، والثانية بقيادة "بوهيموند" النورماندي، والثالثة بقيادة "ريموند دي تولوز"، والرابعة بقيادة "روبرت" النورماندي.ولما بلغت القوات الصليبية القسطنطينية، التقى قادتها بالإمبراطور البيزنطي وأقسموا له يمين الولاء وإعلان التبعية، وتم الاتفاق على أمرين:1ـ أن يزوِّدهم الإمبراطور بالمؤن والذخائر.2ـ تسليمه الأراضي التي يحتلونها، ولكن هؤلاء أخلّوا بالتزاماتهم، ولم يفوا بتعهداتهم.
كانت قوات الصليبيين التي تحاصر المدينة المقدسة تقدر بأربعين ألفًا، وظلت ما يقرب نحو خمسة أيام قبل أن تشن هجومها المرتقب على أسوار المدينة الحصينة، وكان الجند في غاية الشوق والحماسة لإسقاط المدينة، فشنوا هجومًا كاسحًا في يوم الإثنين الموافق (20 رجب 492هـ= 12 من يونيو 1099م) انهارت على أثره التحصينات الخارجية لأسوار المدينة الشمالية، لكنَّ ثبات رجال الحامية الفاطمية وشجاعتهم أفشل الهجوم الضاري، وقتل الحماس المشتعل في نفوس الصليبيين، فتراجعت القوات الصليبية بعد ساعات من القتال.كان موقف الصليبين سيئاً، إذ كانوا يعانون العطش وقلة المؤن، ولكن وصول سفن حربية من جنوه إلى يافا قدمت المساعدة للصليبيين بالمؤن والإمدادات والأسلحة والمواد اللازمة لصناعة آلات وأبراج الحصار، رفعت من معنويات الصليبيين، وقوت عزائمهم وثبتت قلوبهم، وطمعوا في النصر، هذا في الوقت الذي كانت تغيب فيه عن ساحة الدعم أي إمكانية لتقديم مساعدة من جانب الحكام المسلمين، الذين تركوا المدينة تواجه مع تلك الحامية الصغيرة قدرها المحتوم، وإن أرسلت بعض الإمدادات والقوات، فإنها وصلت بعد فوات الأوان وسقوط المدينة.
سقوط نيقيةبقيت القوات الصليبية مرابطة في العاصمة البيزنطية لمدة أسبوعين، ولم تلبث أن عبرت هذه القوات إلى آسيا الصغرى، حيث التحقت بهم بقايا الرعاع التي قادها بطرس الناسك، فاجتمع لهم عدد ضخم من الجند، وتوجه الجميع إلى مدينة نيقية، حاضرة الأمير السلجوقي "قلجأرسلان"، وضربوا حولها حصارًا شديدًا، فصمدت المدينة عشرين يومًا، في غياب قائدها عنها الذي كان يخوض صراعاً حاداً ضد الدانشمديين، في الوقت الذي كان عليه أن يجعل الدفاع عن هذه المدينة في سلَّم أولوياته، وأخيراً سقطت المدينة في (3 رجب 490هـ= 26 من يونيو 1097م)، وكان هذا أول انتصار للصليبيين في حملتهم الأولى.حقق الصليبيون بهذا النصر مكاسب هامة، وساهم في ازدياد حماس الصليبيين، ورفع من معنوياتهم، خاصة وأنه تزامن مع نصر آخر حققوه على السلاجقة في (ضورليوم)، وجعل أبواب آسيا الصغرى مشرعة أمام الجيوش الصليبية الغازية التي تابعت زحفها على بقية المدن والمواقع، حتى تمكنوا من إخضاع كل الأراضي التابعة للسلاجقة في آسيا الصغرى لسلطة الصليبيين.
الزحف إلى الشامتابع الصليبيون زحفهم إلى بلاد الشام، التي كانت تعاني من التشرذم والانقسام وتعصف الخلافات بين أمرائها، ما جعلهم عاجزين عن المواجهة، وفي الطريق إلى أنطاكية، انفصل "بلدوين" أخو "جودفري" بقواته عن الجيش الصليـبي في (ربيع الآخر 491هـ= مارس 1098م)، واتجه إلى الرها التي كانت خاضعة آنذاك للأرمن، واستولى عليها، وأسس منها أول إمارة صليبية في الشرق، وبقي بلدوين في الرها، ولم يلتحق بالجيش الصليـبي الزاحف إلى القدس، مكتفياً بما حققه من انتصارات.أما الجيش الآخر، فقد تابع زحفه إلى أنطاكية، وفرض على المدينة حصاراً في (12 من ذي القعدة 490هـ= 21 من أكتوبر 1097م)، فتصدى له الأنطاكيون بزعامة ياغيسيان، ودافعوا عنها دفاعاً مستميتاً. وعلى الرغم من المناشدة التي أطلقها ياغسيان للحكام المسلمين لمساعدته في الدفاع عنها، وخاصة من قبل حاكمي دمشق(دقاق) وحلب(رضوان) السلجوقيين وغيرهما من أمراء المناطق، فإن هذه النجدات لم تجدِ نفعاً، بل ربما ساهمت في إحباط نفسيات المدافعين عنها، وذلك لسيادة روح الشك وعدم الطمأنينة بين هؤلاء الحكام، ما جعل الصليبيين يستفردون بأهالي أنطاكية، بعد وصول الإمدادات والمساعدات، وأحكموا عليها الحصار الذي استمر تسعة أشهر، وانتهى أخيراً بسقوطها في رجب 491هـ= يونيو 1098م بأيدي بوهيموند، وتأسيس الإمارة الصليبية الثانية في الشرق، وذلك بعد أن ارتكب الصليبيون مجزرة مروِّعة ذهب ضحيتها أكثر من عشرة آلاف.
على أبواب مدينة بيت المقدس ::شكَّل سقوط أنطاكية نقلة نوعية في الصراع الدائر بين الصليبيين والمسلمين، وعزز من بوادر الأمل لديهم بالاستيلاء على بيت المقدس، وشد من عزيمتهم، فاستولوا على معظم المدن والقرى في الطريق إليها، وارتكبوا فيها مجازر وحشية، لأن هذه المواقع كانت تبدي مقاومة عنيفة للغزاة، ولكن هذا لم يمنع بعض الحكام المسلمين من الدخول في طاعة الصليبيين، مؤثرين السلامة، بل نزل بعضهم على شروط الصليبيين بتقديم العون والمساعدة لهم، وتوالى سقوط المدن الساحلية وغيرها في أيدي الصليبيين، حتى بلغوا أسوار بيت المقدس في (15 من رجب 492هـ= 7 من يونيو 1099م)، ومن المفيد الإشارة إلى أن بعض المدن قد صمدت لفترة طويلة في وجه الصليبيين، ولم يستطع هؤلاء إسقاطها، كطرابلس وصور، حتى بعد سقوط القدس، وذلك بالرغم من الإمكانيات المتواضعة التي كانت بين يدي حكام وأهالي هاتين المدينتين.كانت بيت المقدس في ذلك الوقت خاضعة للدولة الفاطمية، وكان عليها "افتخار الدولة" مع حامية المدينة، فاتخذ مجموعة من الخطوات لتعزيز صمودها في وجه الصليبيين، فسمم الآبار وقطع موارد المياه، وطرد جميع من في المدينة من المسيحيين لشعوره بخطورة وجودهم أثناء الهجوم الصليـبي، وتعاطفهم معهم، وقوَّى استحكامات المدينة.
مذبحة داخل بيت المقدس ::وصل الصليبيون إلى بيت المقدس، ودخلوها في (23 من شعبان 492هـ/ 15 من يوليو 1099م)، بعد حصار دام واحدًا وأربعين يومًا، ولما لم يصل حاميةَ القدسِ المددُ من مصر حيث الدولة العبيدية، استطاع الصليبيون اقتحـام المدينة، ولم يكن أمام الجنود إلا الاحتماء بالمسجـد، بعد أن قاوموهم ما استطاعوا، وقد تبعهم الصليبيون داخل المسجد وذبحوهم بوحشية بالغة، ونهبوا قبـة الصـخرة، وأَسَالُوا بحرًا من الدماء، وانتُخِبَ جودفري الفرنسي ملكًا على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح.وفي بيت المقدس ارتكب الصليبيون أشنع المجازر، والتي تليق بقومٍ مثلهم أحرقت الأحقاد قلوبهم؛ يقول ابن خلدون في كتابه العِبَر: "استباح الفرنجة بيت المقدس، وأقاموا في المدينة أسبوعًا ينهبون ويدمرون، وأُحصِي القتلى بالمساجد فقط من الأئمة والعلماء والعبّاد والزهاد المجاورين فكانوا سبعين ألفًا أو يزيدون..."قتلوا في بيت المقدس ما يزيد على سبعين ألفًا في خلال أسبوع فحسب، وكانوا يبقرون بطون الموتى، ويذبحون الأطفال بلا شفقة ولا رحمة. ويصف الأسقف وليم الصوري هذه المذبحة وصفًا تقشعرُّ له الأبدان، إذ يقول: "ويُروى أنه هلك داخل حرم الهيكل فقط، قُرابة عشرة آلاف من الكفرة (المسلمين)، إضافة إلى القتلى المطروحين في كل مكان من المدينة، في الشوارع والساحات، حيث قدّر عددهم أنه كان مساويًا لعدد القتلى داخل حرم الهيكل، وطاف بقية الجنود خلال المدينة بحثًا عن التعساء الباقين على قيد الحياة، والذين يمكنهم أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيقة وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسُحب هؤلاء على مرأى الجميع وذُبحوا كالأغنام، وتشكل البعض في زُمَرٍ واقتحموا المنازل حيث قبضوا على أرباب الأسر وزوجاتهم وأطفالهم وجميع أسرهم، وقتلت هذه الضحايا أو قذفت من مكان مرتفع حيث هلكت بشكل مأساوي" . وقد تركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقًا في جميع أنحاء العالم.
الإمارة الصليبية الرابعة وظهور البطل::نجح الفرنجة في تأسيس المملكة الصليبية الرابعة وهي طرابلس في 11 من ذي الحجة 503هـ/ 12 من يوليو 1109م بعد حصارٍ دام سبعة أعوام، وكانت الصدمة عنيفةً على المسلمين في أقطار الأرض، وأصابت العديدين بالإحباط واليأس، إلا أن هذه الأمَّة التي لا ينقطع خيرها ما لبثت أن أخرجت بطلاً ظهر على مسرح الأحداث مجاهدًا في سبيل الله، ساعيًا إلى توحيد الكلمة، كان هذا البطل هو عماد الدين زنكي بن آق سُنْقُر أمير الموصل الذي مَلَكَها سنة ٥٢١هـ/ ١١٢٧م.عماد الدين زنكي ::لم ينشأ عماد الدين زنكي على حبِّ الجهاد، ووَحْدة المسلمين من فراغٍ، فقد قضى فترة الثلاثين عامًا الأولى من حياته في تربيةٍ عقائديةٍ وأخلاقية مستمرة؛ كان قوام هذه التربية العودة إلى الأصول الإسلامية في القرآن والسُّنَّة، وكان القائمون على تلك التربية هم كبار علماء زمانه؛ كأبي حامد الغزالي، وعبد القادر الجيلاني، وآق سنقر والد عماد الدين.وقد أصبح عماد الدين زنكي أقوى حاكم مسلم في زمانه؛ لأنه سخَّر إمكانياته وقوته في الجهاد ضد الصليبيين.استطاع عماد الدين التغلب على النعرات الانعزالية في كل من بلاد الشام والعراق والجزيرة؛ ففي سنة ( جمادى الأولى ٥٢٢هـ/ يونيو 1128م) مَلَكَ مدينة حلب وقلعتها، وكان هذا أمرًا غاية في الخطورة على الصليبيين في شمال بلاد الشام؛ لأنه كان يقطع الطريق بين الرُّها وغيرها من المستوطنات الصليبية، وفي العام التالي استولى على حماة، ثم حاز حمص سنة ٥٣٢هـ/ 1138م، وبذلك صار الطريق ممهدًا أمامه لتوجيه ضربة قوية للصليبيين
الرُّها في يد المسلمين ::وجاءت هذه الضربة في 26 من جمادى الآخرة ٥٣٩هـ/ 23 من ديسمبر ١١٤٤م حين استطاعت قوات عماد الدين زنكي أن تستولي على الرها بعد حصار دام ثمانية وعشرين يومًا فقط، وكان ذلك السقوط ضربة مؤلمة لنفوس الصليبيين بددت أوهام الأمن والقوة التي عاشوا فيها؛ إذ سقطت المدينة بأيدي المسلمين بعد ما يقرب من خمسين عامًا من احتلالها من قِبَل بلدوين البولوني. وبعد وفاة عماد الدين زنكي استكمل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي مسيرة جهاد أبيه. وُلِد نور الدين محمود في السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا ذا همة عالية، وكان يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم ويحسن إليهم؛ قال ابن الأثير: "لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه"
وقد اعتنى نور الدين بمصالح الرعية، فأسقط ما كان يؤخذ من المكوس، وأعطى عرب البادية إقطاعيات؛ لئلاّ يتعرضوا للحجاج، وقام بتحصين بلاد الشام وبنى الأسوار على مدنها، وبنى مدارس كثيرة منها العادليةوالنورية ودار الحديث، ويُعتَبَر نور الدين أول من بنى مدرسة للحديث، وقام كذلك ببناء الجامع النوري بالموصل، وبنى الخانات (الفنادق) في الطرق، وكان متواضعًا مهيبًا وقورًا، يكرم العلماء، وكان فقيهًا على المذهب الحنفي، فكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام يحضر الفقهاء عنده، ويأمر بإزالة الحُجَّاب حتى يصل إليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عمّا يشكل عليه، وقد وقف نور الدين كُتُبًا كثيرة ليقرأها الناس، وتُوُفِّي بدمشق سنة 569هـوكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد، وملازمته لأبيه في حروبه معهم، وقرب إمارته في حلب من الصليبيين؛ مما جعله أكثر الناس إحساسًا بالخطر الصليبي.استهلَّ نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة أنطاكية الصليبية، واستولى على عِدَّة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة (جوسلين الثاني) لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي، وذلك في جمادى الآخرة 541هـ/ نوفمبر 1146م، وكانت هزيمة الصليبيين في الرُّها أشد من هزيمتهم الأولى. * نور الدين وحكام الأقطار
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب وُدِّها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع (معين الدين أَنُر) حاكم دمشق، وحليف الصليبيين، والذي كان حاكمًا ظالمًا، وذلك سنة (541هـ/ 1147م)، وتزوج ابنته من أجل تحييده، فلمّا تعرض (أنر) لخطر الصليبيين -وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف- لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معًا واستوليا على بُصرىوصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق، حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة أنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثاوبصرفوت.وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكان سِنُّه إذ ذاك تسعًا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرًا كثيرًا.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، (1386هـ= 1966م). سعيد عبد الفتاح عاشور: الحركة الصليبية، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة،1982م. ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة، (1419هـ= 1998م). ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/16.
تقديم الطالبه :اهداب شاكر القرشي الرقم الجامعي :43011168