E N D
بين الغلام والراهب والملك • بين يدينا قصة من قصص القرآن الكريم، وهي تلك القصة العظيمة التي قص الله علينا خبرها في كتابه، فقال -جل من قائل عليمًا- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (البروج: 1 - 9).
تحمل هذه الآيات الكريمات قصة أصحاب الأخدود، هؤلاء الذين فتنوا في دنيهم، هؤلاء الذين أحرقوا في خنادق النار مع نسائهم وأطفالهم، وما نقموا منهم إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، وكان النكال نكالًا دنيويًّا بالغ القسوة، وكانت جريمة نكراء عندما اقتيد أولئك المؤمنون الأطهار إلى خنادق النار، وحفرت وأضرمت فيها النار هم ونساؤهم وأطفالهم؛ ليلقَوْا فيها لا لشيء، إلا لأنهم آمنوا بالله -جل في علاه- حتى أتت المرأة مع طفلها الرضيع تحمله، حتى إذا وقفت على شفير الحفرة والنار تضطرم فيها، كأنها خافت لا خوفًا من النار ولكن رحمةً بطفلها ووليدها، فأنطق الله تعالى طفلها الرضيع ليقول لها مؤيدًا ومثبتًا ومصبرًا: ((يا أمه اصبري فإنك على الحق))، فتقتحم المرأة الضعيفة والطفل الرضيع يتقحمان هذه النار، مشهد مريع، وجريمة نكراء، قص القرآن خبرها، وذكَّرنا بها، فإذا بها قصة تمتلئ بالدروس، وتشتحن هذه القصة بالعِبر، فهل من مدكر؟ وهل من معتبر؟.
بدأت قصة هذه الأمة من الناس بقَسَم عظيم من الله -جل في علاه- ألا وهو قول الله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، وقد اختلف أهل التأويل في معنى "البروج" في هذا الموضع، فقال بعضهم: عُني بذلك والسماء ذات القصور، قالوا: والبروج القصور، ومنهم من ذهب: إلى أن البروج بمعنى ذات الرمل والماء، ومنهم من قال: بل البروج النجوم، فالنجوم هي تلك البروج التي ذكر الله -عز وجل- أو هي الكواكب، وهذه معاني كلها متقاربة.
ثم إن الله -تبارك وتعالى- أقسم بعد هذا باليوم الموعود، وما هو هذا اليوم الموعود؟ قيل: إن هذا اليوم الموعود هو يوم القيامة، وهذا منقول عن السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم- فهو قسم بالسماء وبروجها ونجومها وآياتها، وما بثَّ الله -عز وجل- فيها، وبعد ذلك هو قسم بيوم القيامة وما يقع فيه؛ لأنه يوم عظيم، ولهذا ناسب أن يقول بعده: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}والشاهد: مَن يحضر في ذلك اليوم من الخلائق، والمشهود: هو ما في ذلك اليوم من العجائب والأهوال، والله -تبارك وتعالى- وصَفَ يوم القيامة بكونه مشهودًا بقوله -جل من قائل-: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (مريم: من الآية: 37) وقال سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (هود: من الآية: 103) وقال: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: من الآية: 52).
إذن، الناس يومئذٍ شهود في ذلك اليوم العظيم، يوم الفصل، يوم يقوم الأشهاد، يومٌ هو يومُ الجمعة الذي تقوم فيه الساعة، ويكون فيه ذلك المحشر العظيم. ولهذا كان بعض السلف يقول: اليوم المشهود هو يوم الجمعة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بإكثار الصلاة عليه في يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة. وقيل: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة.
وقوله -تبارك وتعالى-: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}فهذا جواب هذا القسم، فإن الواو هي واو القسم، والسماء، واليوم الموعود، والشاهد والمشهود، هو ما أقسم الله -تبارك وتعالى- به، على ماذا؟ على قوله -جل من قائل-: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}أي: لُعِنَ أصحاب الأخدود، والأخدود: هو الشق والحفر في الأرض، ويجمع على: أخاديد، والأخاديد: هي الحفر التي تحفر في الأرض، وفي هذا خبر عن قوم من الكفار عمَدوا إلى مَن عندهم من المؤمنين بالله -جل وعلا- فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبَوْا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودًا، وأججوا فيه نارًا، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به، ثم أرادوهم على أن يتركوا دينهم إلى الكفر، فلم يقبلوا، فقذفوهم فيها، ولهذا قال -جل من قائل-: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}.
وقد اختلف أهل العلم في أصحاب الأخدود، من هم؟ • فقال بعضهم: قوم كانوا أهل كتاب من بقايا المجوس، وكان بعضهم على هذه المِلة حتى أرسل الله -تبارك وتعالى- إليهم مَن استنقذهم، والله -تبارك وتعالى- قال: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}المشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا أنهم آمنوا بالله تعالى الذي لا يُضام مَن لَاذَ بِجَنَابِهِ، إلا إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- الذي إليه يلجأ العباد على كل حال، فإن كان قد قُدر على هؤلاء الذين وقع بهم هذا البلاء على أيدي الكفار، فإنه -سبحانه وتعالى- ما وقع ذلك إلا بعلمه، وما وقع ذلك إلا بنظره، جل في علاه.
وقد ثبت قصة أصحاب الأخدود في (صحيح مسلم) وغيره، في باب: "قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام". والحديث من رواية صُهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال:
((كان ملَك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبُر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلامًا؛ أعلمه السحر، فبعث إليه غلامًا يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهبٌ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر، مَرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتَى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلَك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابة عظيمة قد حَبست الناسَ، فقال: اليوم أعلم الساحر أم الراهب أفضل؟ فأخذ حَجَرًا، فقال: اللهمإن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلَى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ.
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمِعَ جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوتُ الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك، فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: مَن رد عليك بصرك؟ قال: ربي، وَلك رب غيري!! قال: ربي وربك الله، فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل: ارجع عن دينك، فأبَى، فدَعَا بالمئشار فوضع المئشار في مِفْرَقِ رأسه، فشقه حتى وقع شِقاه.
ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجِع عن دينك، فأبَى، فوضع المئشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبَى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله، فقال للمك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كِنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمِني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صِدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأُتي الملك، فقيل له: أرأيتَ ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس. • فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدت، وأضرم النار، وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه، اصبري، فإنك على الحق)).
هذه قصة مبدوءة بقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر))، ومن كان قبلنا اسم يجمع من سبقنا من الأمم، وقد سبق أن بعض المفسرين أفاد: أن هؤلاء كانوا بقايا من المجوس، وعند بعضهم: أنهم من بني إسرائيل، وهو منقول عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
وقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((فيمن كان قبلكم)) يريد به فيما مضى، لكن المقصود من هذا الماضي أن يرتبط بحاضر الدعوة في عهده، فقال: ((قبلكم))وبذلك أضيفت أحداث هذه القصة بعد تجريدها إلى واقع الدعوة القائم الآن، حيث إن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ ابتدأت مع بداية الزمان. والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية حددت باللفظة الأولى: ((كان ملك))وهذا الملك يمثل أولئك الملأ الذين تمالئوا على الدعوة، يمثل تلك السطوة والسلطة الكافرة التي تسيطر على واقع الناس؛ لتحقق فيهم مرادهم، ولتبعدهم عن غاية الدعوة فيهم، ولهذا برز ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق وبين الحكم الباطل، وبين الملأ الكافر، بصورة واضحة جدًّا في دعوات النبيين، فالله -عز وجل- قال لموسى بني إسرائيل -عليه السلام-: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه: 24)، ذلك أن الرسالة لم تكن أصلًا إلى فرعون؛ لأن موسى كان مرسلًا إلى بني إسرائيل، وكان كل ما يريده هو أن يخرج بهم -أي: ببني إسرائيل- من مصر، ولهذا قال الله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الأعراف: من الآية: 105).
ورغم هذا فقد كانت المواجهة مع فرعون باعتباره حاكمًا متسلطًا مسيطرًا على واقع الناس الذين كانت الرسالة إليهم، وكانت مواجهة عَقَدية مرتبطة بتصور الدعوة ومنهجها، تؤكد على كل حقائق الرسالة وقضاياها، وبهذا يكون موسى -عليه السلام- قد بدأ بدعوته إلى بني إسرائيل البداية الطبيعية عندما واجه فرعون وملأه.
وبذلك نفهم أن هناك عداء بين الدعاة إلى الحق وبين المبطلين، وأن هذه العداوة أمر بَدَهي؛ لأن ما جاء به المرسلون هو الحق المحض، ومع عليه هؤلاء الملأ هو الطغيان المحض، وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق تظهر في الواقع، لا بد أن تُواجه الباطلَ أو أن يواجهها الباطلُ ولا بد، ولهذا كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- حريصًا في بداية دعوته على أن يعلنها على الملأ، وأن يجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس، فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلة الاستضعاف؛ تأكيدًا لأبعاد هذه الدعوة منذ بدايتها، ودون اعتبار لتلك الإمكانيات أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء أولئك الملوك، فمن الملوك من كان يفهم قصد نبينا-صلى الله عليه وسلم- مثل "هِرَقل" الذي وصلت رسالة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بدعوته إلى الإسلام، فناقش أبا سفيان الذي كان حاضرًا في بلاد الروم عندما أراد "هرقل" بحث أمر الرسالة، وتم حوار رائع حول الدعوة بين "هرقل" وبين أبي سفيان، انتهى بقول "هرقل": والله لو كان ما تقول حقًّا، فسيملك موضع قدمي هاتين، ولو كنت أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت -أي: لتمنيت لقاءه- ولو كنتُ عنده لغسلت عن قدمه، وهذا عند البخاري وغيره.
ثم يواصل تأكيد فَهمه لطبيعة الدعوة الصحيحة، فيوجه نصحه إلى الروم قائلًا: يا معشر الروم، هل لكم في أن يثبت ملككم، فتُبايعوا هذا النبي؟ • ومن الملوك من كان لا يفهم قصد نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان تأخذه العزة بالإثم مثل "كسرى" الذي كان على الفرس، حيث ذهل لجرأة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في بعثه برسالة يدعوه فيها إلى الله، ويأمره فيها بالإسلام، فما كان منه إلا أن مَزَّقَ الرسالة التي بعثها نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فدَعَا عليه بأن يمزق الله مُلكه كلَّ ممزقٍ، فقال-عليه الصلاة والسلام-: ((اللهم مزق مُلكه كل ممزق)).
ولقد كانت قريش من الذين لم يفهموا قصد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فظنته أنه لا يريد بهذه الدعوة إلَّا أن يكون ملَكًا أو أن يكون حاكمًا، فعرض عليه سادتها أن يكون سيدًا عليهم، فقالوا له:إن كنت تريد سيادة سوَّدناك علينا، فرفض نبينا-صلى الله عليه وآله وسلم- تلك السيادة. • فالحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين له، ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يكون استرداده بالدعوة إلى الله، وبالعمل الدءوب؛ ليكون ولاية شرعية حقيقية، وليس مجرد تسلط شخصي، أو سيادة فردية دون إمكانية القيام بأمر الحكم والاستمرار فيه بعد الوصول إليه.
وفي الحديث: ((وكان له ساحرٌ...))وتفيد هذه العبارة أن الساحر للملك، والسحر للحكم، ولم يكن السحر مجرد ظاهرة موجودة في المجتمع، بل إنه اتجاه يحكم هذا المجتمع، وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع، فلا بد أنه واقع فاسد قائم بالظلم، محكوم بالهوى، فعلى رأسه ملك مبدؤه السحر وسلطانه القهر، فلا بد أن يكون هذا المنهج منهجًا فاسدًا، وأن القيادة فيه قيادة قهرية، وأن الفكر فيه خرافة، وأن الواقع فيه ضياع، وعندئذٍ يكون الإنسان إما متكبرًا لا يعجبه إلا نفسه، أو مقهورًا لا يشعر بكرامة نفسه.
والسحر باعتباره توهم وكذب يحقق أغراض الحاكم الظالم، وأي منهج ليس من عند الله يخضع له الناس يحقق نتائجَ السحر، وليس هناك فارق بينهما إلا في الشكل والاسم، فالمهم أن يكون في المجتمع قوة عاقلة أو عقل قوي، وهذا ما يتحقق بالسحر ولا بأي منهج بشري مهما كان؛ لأن أي منهج غير إسلامي يتفق في خصائصه مع السحر؛ لأن السحر تخيل بتأثير عامل الخوف، وباستغلال حالة الجهل، وأي منهج يتخيل الإنسان أنه سليم بتأثير الإرهاب الذي يُفرض به ذلك المنهج من خلال الجهل والضعف، يحقق نتائج السحر، والعياذ بالله.
((فلما كبر قال للملك: إني قد كبرتُ، فابعث إليَّ غلامًا أعلمه السحر...))، من هذا نجد نموذجًا لبِطانة السوء، التي يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها، وينعمون فيها، ومَثَلُهُم الواضح سَحَرَةُ فرعونَ الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى، فكان أول ما قالوا: {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الأعراف: 113، 114)، لم يسألوا عمن سيواجهون؟ ولا ما هي قضيته؟ فهذا لا يهم، لكن كان الذي يهمهم هو الأجر. غير أننا نلحظ أن الساحر في طلبه للغلام لم يكن يريد منفعة شخصية؛ لأن الطلب جاء لما أحس الساحر بدنو أجله، فلم يكن يريد بهذا الطلب شيئًا شخصيًّا له، وهذا يبرز معنًى جديدًا، وهو أن الساحر لما كبر وعاش عمره في تهيئة الواقع للملك، مستفيدًا ومنعمًا، لَمْ يصبح الأمر بالنسبة له منفعة ذاتية، بل أصبح هذا ذاته نفسها التي أحب أن تستمر في شخص الغلام، قضَى عمره ساحرًا، ولا بد من امتدادٍ لهذا العمر بعُمُر جديد، فكان طلبه للغلام.
ولكن لا يجب أن يُتوقف عند هذا الحد في تفسير طلب الساحر للغلام، إذ أننا نرى الدافع إلى هذا الطلب هو ذلك الشيطان القائم على أمر هذه الجاهلية بأجيالها الممتدة، إن الشيطان يملك تجربة الوجود الإنساني، ويتعرف عليها من بدايتها، ويستطيع بها ربط الأجيال كلها جيلًا بعد جيلٍ، وبهذا يجب أن ندرك خطورة ذلك الواقع المخالف لِمِنهاج الله -تبارك وتعالى- فليس الامتداد تعاطفًا بين الأجيال؛ لأن ذلك الجيل الضال مفتت ومشتت لا يمكن أن يتعاطف حتى مع نفسه، وحينما نرى هذا نعرف أن هنا حتمية تاريخية مفروضة على الواقع الإنساني لا سبيلَ إلى إنهائها أو تغييرها؛ لأن التاريخ وأحداثه لا يتحقق إلا بقدر الله وحده، والمسلمون وحدهم هم الذين يملكون بعقيدتهم وتصورهم سُنن هذا القدر، وأسباب تحقيقه، وهم وحدهم القادرون على إنهاء هذا الوجود المخالف لدين الله تعالى وشرعه إذا التزموا بتلك السنن، وأخذوا بهذه الأسباب.
وحينما يقرأ الإنسان قوله: ((فأتاه بغلام))يود أن لو استطاع أن يمد ذراعه ليأخذ ذلك الغلام وينجيه من هؤلاء الناس، فإنه لا يُحزن لشيء أكثر من الحزن على ضياع الفطرة، وإفسادها في مناخ مجتمعات ظالمة، فماذا لو نرى إنسانًا يضيع، وفطرةً تفسد، ثم لا يتقدم أحد لحماية هذه الفطرة، ولا يبذل أحد أي جهد أو أي عمل؟ وماذا لو نرى إنسانًا قد مات على الكفر بعد أن ولد على الفطرة، ولم نكن قدمنا له أسباب الهداية، ولا أعنَّاه بما يدفع به عن نفسه طرقَ الغواية؟
إن الداعية الحقيقي هو الذي يشعر بمسئوليته تُجاه الفطرة الإنسانية وحمايتها من أي تأثير يدخل عليها، أو يعمل على انحرافها يحس الداعية إحساسًا عميقًا بقيمة تلك الفطرة في واقع دعوته، فالفطرة هي رصيد الدعوة في الواقع المخالف، وحينما تفسد فلن يكون للدعوة أي وجود أو امتداد، وهذا ما قصده نوح عندما دعا بهلاك قومه لَمَّا رأى وجودهم في ضلال، ورأى امتدادهم في فجر وكفر -والعياذ بالله- فقال -جل من قائل-: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: 26، 27).
((وكان ذلك الغلام في طريقه إذا سَلَك راهبٌ، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه))، بقدر الله التقى الغلام بالراهب وهو في طريقه إلى الساحر، فسمِعَ منه، فأعجبه، ولم يكن هذا سهلًا على نفس الغلام، لولا أن تلك النفس كانت على الفطرة بعدُ، لم تتغير ولم تتبدل، ذلك أن السحر يناقض الفِطرةَ، وأن السحر يبطل هذه الفطرةَ، ويحرف هذه الفطرةَ.
((فكان ذلك الغلام إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب))، ويلمح من هذا النص: أن ذلك الغلام كان على إصرار في أن يقعد إلى الراهب، أنه يقعد إليه كل ما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كل ما تأخر عنه، وهذا الضرب يمثل بالنسبة لهذا الصغير بلاءً واختبارًا إذا راعينا أنه غلام صغير، ولكن الله -عز وجل- يشاء أن يتربَّى هذا الغلام تربيةً حقيقةً كاملةً، وأن يكون ارتباطه بالدعوة متفقًا مع طبيعتها؛ لأن هذا الغلام سيكون منطلقًا أساسيًّا لتلك الدعوة، وسيكون دليلًا إليها فيما بعد، وهذا لا بد له أن تتكامل شخصيته، وأن يستعد لذلك البلاء، وأن يصبر عليها عندما يقع، ذلك أن طبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به، والدعوة إليه، والذين يأخذون هذا الدين على أنه اختبار وامتحان وَهُم فيه ومعه في بلاء وشِدة وعَناء، هم الذين يبقون إلى النهاية -بإذن الله- وَأَخْذُ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه، ولذلك أراد ربنا -تبارك وتعالى- أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة ومع شدة البلاء والأذى الذي كان يناله من ذلك الساحر إذا تأخر، تظهر الآيات التي تعينه على الصبر، وتطمئن النفوس.
((فبينما هو كذلك، إذ أتَى على دابة عظيمة قد حبست الناسَ، فقال: اليومَ أعلم الساحر أفضل أم الراهب؟ فأخذ حَجَرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة؛ حتى يمضي الناس، فقتلها، ومضى الناس)):
كان الغلام قلقًا لتلقيه من الراهب والساحر في وقت واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام في تلقيه للدين والسحر دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير؛ لأن السماع حينئذٍ سيكون مجردًا، وإنما كان الغلام يتلقى هذا كله بتأثر عميق، فيتأثر بكلام الراهب، ويدرك معاني الدين إدراكًا سليمًا، ومن هنا كان الأمر صعبًا عليه أن يستمع إلى الحق المحض وأن يستمع بعد ذلك إلى الباطل الصِّرف، ولهذا كان يحب أن يطمئن إلى سلامة ما هو عليه من الحق، فبمجرد أن وقعت هذه الواقعة، قال: ((اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر))، وهذا يُفهم معه أنه كان أقربَ إلى الراهب، وأحب إليه أمر الراهب قبل الساحر، يعني: أنه يريد أن يرتبط إيمانه بالراهب، كذلك وجدنا أن الغلام قال: ((اللهم))وهذا يدل على عمق تأثره بالإيمان، لكنه كان يطلب اليقين من خلال الواقع، فقال هذه المقولة: ((إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر))، وهذا نوع اختيار، إنه يختار أمر الإيمان على أمر الكفر، والعياذ بالله.
ولقد أحسن الغلام في طلبه لليقين لَمَّا اختار حادثة الدابة التي تسد على الناس طريقهم، فإن هذا الحادث وما تم فيه يعتبر بحق تجربة كاملة في الدعوة بجوهرها وأبعادها، كما تتضمنه التجربة من خلال القصة كلها.
((ورجع الغلام إلى الراهب فأخبره، فقال له: أي بني، أنت اليوم أفضل مني))، ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفًا عاديًا عندما قال للغلام ذلك، ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية، فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حبًّا خفيًّا للتميز، باعتبار أن هذه هي الممارسة صورة من صور تميزه على الناس، هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتمًا إذا واجه الإنسان موقفًا يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة، وأقدر منه على تحقيق مصلحتها، لم يكن ذلك الراهب من هذا النوع، بل كان تقيًّا نقيًّا، فقال له: ((أي بني، أنت اليوم أفضل مني))كلمات تفوح منها رائحة الإخلاص، وتتنسم الأجيال منها رائحة التجرد لله -عز وجل- كان هذا الراهب أمينًا أصيلًا، إذ أخبر الغلام أنه أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج إذا خلصت نفسُه لله، تبارك وتعالى.
وهذا الغلام كان صغيرَ السن، لكنه كان عظيم الشأن، والراهب ما التقَى به إلا منذ وقت قريب، فهذا يدلك على مدى الفَهم الصحيح عند الراهب للدعوة، فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان، ولكنه بالإيمان وبالكفائة وبالأثر وباليقين، ونرى أن ذلك الراهب أنشأ علاقة إنسانية رفيعة حين قال للمتعلم منه: ((أي بني))هذه عَلاقة إنسانية رفيعة تفوح منها -كما قلنا- رائحة التجرد، وتظهر فيها الوجدانية التي تربي تربيةً صحيحةً، فالراهب يحنو على غلامه هذا، ويرفع قدره فوق قدر نفسه، ويهيئه لمعارك أكبر، ولاختبارات أعظم، وينبئه أنه قد يرِد عليه البلاء فعليه أن يحفظ سِره، وأن يكتم خبره، ذلك أن الغلام كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وكأن هذا إيذان لهذا الغلام بأنه سينكشف أمره، وسيظهر خبره، ويتسامع الناس بأمره، حتى إذا سمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ((ما ها هنا لك أجمع إن أنتَ شفيتني))، وتلك كانت فرصته أن يَبْلُغَ بالدعوة إلى غاياتها، وأن يسلك بالدعوة إلى قلب هذا الرجل الذي كان جليسًا للملك.
فَبَدَرَ من فَوْره قائلًا: ((أنا لا أشفي ولكن الله هو الذي يشفي))، يتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليسُ -فكرة الهدايا- فلم تنل من إحساسه شيئًا، ثم يقول له: ((إن أنت آمنت بالله دعوت الله، فشفاك))، وهنا يرتفع قيمة الأمر بالإيمان الذي طلبه الغلام في تصور الجليس؛ لأن شفاءه سيكون بهذا الإيمان، ولأن الأمر بالإيمان كان بديلًا للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديرًا واعتبارًا، فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام، فآمَن الجليس، فشفاه الله تعالى.
الغلام حين قال له: ((لا أشفي أحدًا، ولكن الله هو الذي يشفي))، أكد بذلك عقيدته من خلال تلك المنفعة وتلك المصلحة التي قدمها لجليسه، هذا هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة تأليف القلوب في الدعوة إلى الله، إذ يجب أن ترتبط المنفعة المقدمة بالعقيدة المعروضة، وهذا الارتباط هو الذي سيعطي لتلك العقيدة قيمتَها في نفوس الناس ابتداءً، فهناك فارق بين تقديم المنفعة لمجرد المنفعةِ، والمنفعة لتأكيد عقيدة، وهذا موقف لرسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- يوضح لنا هذا الفارق، حين جاء إليه رجل يطلب مالًا، فقال له: ((خذ ما بين هذا الوادي، فقال الرجل: أتهزأ بي؟ قال: لا))، فأخذ الرجل كلَّ الإبل التي كانت عند رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- ولم يترك شيئًا دون أن يمنعه أحد، فلما اقترب من قبيلته، قال: "يا قوم، أسلموا، فقد جئتم من عند من لا يخشَى الفقر"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
يعود ذلك الجليس إلى الملك فيجلس إليه كما كان يجلس إليه من قبل، فيعجب الملكُ من حاله قائلًا: ((مَن رد إليك بصرك، قال: ربي، قال: أَوَلك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله))، عَجَبًا لهذا المتسلط الطاغية، يدعي لنفسه الربوبية، وكيف يكون له هذا وهذا لا يتأتى في بادئ الرأي، ولا في ظاهر الأمر؟! إنه يكفر ثم يبالغ في الكفر، ويمعن فيه على حد قول من قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: من الآية: 38)، المؤمن لا يبالي بمثل هؤلاء الطغاة، فيواجههم بقوة وصراحة كما فعل الجليس مع الملك، فقال له: ((ربي وربك الله))، فنجد في رده نفيًا لربوبية الملك المدَّعَى من خلال إثبات ربوبية الله -جل وعلا- على الملك وعلى غيره، إذ ليس له ولا لغيره رب سوى الله -جل في علاه- وعندئذٍِ يطيش صوابه، ويبدي الغضب كل الغضب، فيأخذ ذلك الجليس للعذاب حتى يدل على الغلام، ويأخذ الغلام بالعذاب حتى يدل على ذلك الراهب، ويأخذ ذلك الراهب بالعذاب حتى يرجع عن دينه، فيأبى.
وهنا تبدأ المحنة، محنة جديدة، محنة لذلك الراهب، ومحنة لذلك الجليس، كل منهما يجود بنفسه حتى يلقَى اللهَ -تبارك وتعالى- يموت مِيتةً عجيبةً، يُفرق بالمنشار من مفرِق رأسه حتى يقع شِقاه، يا لها من حالة تدعو إلى الإعجاب، تلك حالة الثبات التي كان عليها أولياء الله ذلك الراهب وذلك الجليس اللذان توكلَا على الله، فشعرَا أن الله -تبارك وتعالى- كافيهما، وأن الله -جل وعلا- هو حافظهما، وأن الله -تبارك وتعالى- هو ناصرهما، لكنهما فهمَا وعلمَا أن النصر الحقيقي هو انتصار العقيدة على غريزة حب الحياة، وانتصار هذه العقيدة على هذا الطاغوت المتجبر من طواغيت البشر -والعياذ بالله- هو انتصار الثبات في وجه هذه الفتن، كل ذلك كان في قصة ذلك الجليس الذي أبَى أن يعود إلى الكفر، وأن يرجع عن دينه، وقصة ذلك الراهب الذي بقي على الحق ثابتًا كالطَّوْد الأشم حتى لقي الله، تبارك وتعالى.
وهذا يذكرنا بحديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه- حين شَكَا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بُردةً في ظل الكعبة، فقالوا: ((ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: قد كان ما قبلكم يُؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتَى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون))، هكذا يذكِّر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصحابةَ بهذا الموقف العظيم، وهو في شِدةٍِ من أهل مكةَ وبلاءٍ وَلَأْوَاءٍ، لكن الأمر لا يقاس ببرهة من برهات الزمن، وإنما ينظر فيه إلى طول هذا الطريق الممتد، طريق النصر لأولياء الله -عز وجل- ولمرسليه.
ولهذا رأينا حرصَ ذلك الملك الشديد على ارتداد الغلام حتى لا يسبب قتله حَرَجًا للملك، وبلبلةًَ في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفًا لدى الناس بأعماله الطيبة، وبحبه للخير، وببذله الخير لكل أحد، فحاول الملك محاولاتٍ شتى؛ لينهي قصة هذا الغلام، وليقطع الطريق على الناس أن يؤمنوا برب هذا الغلام، فيحاول محاولاتٍ متكررةً؛ ليقتل هذا الغلام ولينهي قصته، ولكن هيهاتَ هيهاتَ.
الفتنة والثبات على الحق • اتسعت رقعة التحدي بين الغلام والملك، فهذا يريد أن يقتل الغلام حتى يقطع الطريقَ على الناس أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فيرسل الغلام من طائفة من زبانيته وجلاوزته؛ ليلقوه من شاهق، فما يكون منه إلا أن يدعو الله فوق الجبل: ((اللهم اكفنيهم بما شئتَ))، بأي كيفية يرضاها الله تعالى، وبأي سبب يختاره -جل وعز- فالتوكل على الله -تبارك وتعالى- يكفي الغلام بإذن الله -تبارك وتعالى- فما كان من الجبل إلا أن اهتز فسقطوا، وعاد سالمًا.
ثم جاء يمشي مرةً أخرى إلى الملك لا يريد النجاة، وإنما يريد أن يبلغ دعوة الله، ليست الحياة هدفًا يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورةً من ضرورات الدعوة إلى الله، سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة، أو يتطلب الحرص على الموت، والذين يفسرون مصلحة الدعوة للحرص على حياة الدعاة ورفاهيتهم فحسب، هم أصحاب التصور الناقص الذي لا يعدو أن يكون فلسفةً للجبن أو للتخاذل عن نصرة دين الله، والمندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة، إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقةَ الدعوة، وإمكاناتها، إن مصلحة الدعوة هي ذلك الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضًا الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبنًا، ولم تكن عودته إلى الملك تهورًا، بل كان في كِلا الموقفين شجاعًا حكيمًا.
يعود إليه مرة أخرى فيرسل الملك به في طائفة جديد؛ ليغرقوه في الماء، فيكفيه الله -عز وجل- شأنَ هؤلاء المجرمين، شأن الأثمة،يكفيه الله تعالى أمرهم ويغرقهم -جل وعلا- في اليم، ويرجع ذلك الغلام مبرأً سليمًا معافًا؛ ليتم منهجه، وليقيم دعوته، وليظهر حجته على ذلك الملك، وليعلي شأن راية التوحيد بين الناس أجمعين.
ثم إنه يقول للملك: ((إنك لن تستطيع قتلي إلا إذا فعلتَ ما آمرك به))نرى في كلمات هذا الغلام أمرين؛ نرى إثبات عجز ذلك الملك، ونرى أيضًا حرص الغلام على إنهاء هذا الادعاء الذي يدعيه ذلك الملك، وهو ادعاء الربوبية بإثبات عجزه واضطراره في ذلك الموقف؛ لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الادعاءالفظيع، ويكون الأمر على ما قال له: ((إنك لن تستطيع قتلي إلا إذا فعلتَ ما آمرك به))، وينتشر الخبر في الناس: ((أن تجمع الناس في صعيد واحد))، حتى يشهدوا الأحداث، وتظهر الآيات، فيفهموا معناها ويبدو لهم مغزاها، بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر؛ لأنه يعلم أن مثل هؤلاء الحكام يخفون الحقائق التي تفيد الناس وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحق، وهذا هو ما قصده موسى -عليه السلام- حين قال للطاغية في مواجهةٍ ظالمة بينه وبين السحرة، أمره بأن يكون ذلك في يوم اجتماع الناس في يوم الزينة: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (طه: من الآية: 59).
يستمر الغلام في إصدار أوامره إلى الملك الذي بدًا عاجزًا: ((وتصلبني في جذع شجرة))، حتى يكتمل ضعف الغلام في إحساس الناس، فيكون غلامًا صغيرًا مصلوبًا في جذع شجرة حتى يسهل على الناس أن ينطلقوا بأحساسيهم نحو الإيمان بالله، بتلك القوة التي قهرت الملك وأذلته في سلطانه؛ لتقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب قوةُ الله رب الغلام.
((ثم تأخذ سهمًا من كِنانتي))واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو، فيكون سبب القتل من عنده، وتتأكد رغبته في القتل: ((ثم تضع السهم في كَبَدِ القَوْس، ثم قُلْ: بسم الله رب الغلام))وبهذا يكون الغلام أعطى للناس تفسيرًا للموقف، فيكون قتله رغبةً منه وسببًا من عنده، يتحقق بقدر الله بعد أن عجز ذلك الملك، يستجيب لأوامر الغلام استجابةَ الضعيف المضطر، فيجمع الناس في صعيد واحد، ثم يصلبه على جذع، ثم يأخذ سهمًا من كنانته، ثم يضع السهم في كبد القوس قائلًا: ((بسم الله رب الغلام))، فيقع ما كان يريد، وما كان يريد هو ما كان يحذر، يقع السهم في صدغ الغلام، فيموت من ذلك، فتكون آيةَ صدق وبرهانًا ظاهرًا على أن هذا ما كان لولا أن ذلك الغلام أراد أن يموت ليظهر للناس عجزَ هذا الطاغية، فما كان منهم إلا أن قالوا في لحظة واحدة: ((آمنا برب الغلام))، في لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل، في لحظة العزة بعد القهر والذل، في لحظة القوة بعد الوهن والضعف، يؤمن الناس.
فأُتِي الملك فقيل له: ((أرأيت ما كنت تحذر، قد وقع والله بك حذرك))، وتغيرت ملامح المجتمع، وأنهت الجماهير ادعاء الحاكم الكاذب، فجاء إلى الملك من يقسم له بالله على هزيمته وعجزه، ويقول له: ((قد وقع الله بك حذرك))، فيأمر بالأخاديد في أفواه السكك فتُخد، ويضرم فيها النار ولا يتوقف اندفاع الناس من كل طريق، وفي كل السكك، حتى واصلوا الاندفاع إلى أخاديد النار:((من لم يرجع عن دينه، فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم))كل إنسان يحب البقاء، لكن هؤلاء الذين رأَوْا الآيةَ ظاهرةَ، والحجةَ باهرةَ، ما كانوا ليتلكئوا، أو ليتراجعوا عن نصرة دين الله -عز وجل- فاندفع الجميع، حتى كانت آخر الناس امرأة جاءت تحمل صبيًّا لها متقاعسًا؛ خشيةً على غلامها، فأنطق الله لها هذا الغلام ليكون لها آية وبراهانًا وبينةَ نجاةِ هؤلاء القوم، وصحة ما هم عليه من العقيدة، قال لها ذلك الغلام الرضيع: ((يا أمه، اصبري إنك على الحق))، جاءت بولدها متمسكة به إلى النهاية، لم تفصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود، فاشتعلت مشاعر الأمومة في قلبها، وكرهت الموت، فترددت أن تقع بابنها، لكن الطفل أطفأ في إحساس أمه لهيبَ النار ذات الوقود، لتلقي بنفسها، وتنجو من الضعف والتقاعس.
وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود؛ لتعلن قصة انتصار الحق، لتعلن قصة انتصار أصحاب الأخدود -رحمهم الله، ورضي عنهم- وتبقى عبرةً باقيةً للأجيال، وذكرى على مر العصور وكر الدهور، بإذن الله تبارك وتعالى
عِبر وركائز دعوية في قصة أصحاب الأخدود • إن قصة أصحاب الأخدود بأسرها توجيهُ للدعاة، تعليم للدعاة، تربية للدعاة، وفيها وقفات، نَمُرُّ عليها بإذن الله سريعًا. • فإنا إذا رأينا أن الله قد أملى للظالمين، ومكن للمجرمين، فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاء مدخر هناك، ولذا فلا داعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم، إنك تشفق على بعض الناس حينما يَجهدون في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو بذاك المجرم، لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، لكن عند الله -تبارك وتعالى- تجتمع الخصوم، والعبرة هناك في دار الجزاء، ويكفي الأبرار أنهم صمَدوا أمام حَر النار، وأنهم بقوا ثابتين في فتنة شديدة شنيعة لا تتحملها القلوب إلا قلوبٌ صبرت لله -عز وجل- وضحت لأجله، تبارك وتعالى.
والوقفة الثانية: أنه لا ينبغي لأحد أن يغتر بأي مظهر من مظاهر من مظاهر القوة أوتيها، فمظاهر القوة في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقف العبد بين الله -جل وعلا- إن هذه القوة وإن كثرت وقويت، فهي تنتهي سريعًا، وتمضي جميعًا، والعبرة بالمثول بين يدي ربٍّ تنتهي كل موازين القوى أمامه -جل وتقدَّس وتعالى- والمظلوم عليه أن يتذكر أن الله ناصره لا محالة؛ لأنه سبحانه حَرَّمَ الظلم على نفسه، وحرمه بين عباده، وسينتهي الخلق إلى يوم يَقتص الله فيه للشاة الجماء من القَرْناء، فكيف بأهل الإيمان: ألا يقتصون من أهل الفجور والفسوق والكفور والطغيان؟! لن يفوت شيء من حق الدعاة في الآخرة وإن فاتهم ذلك في الدنيا.
والوقفة الثالثة: إن هذا الانتظار للجزاء الأُخروي كما هو دافع رهبة فهو دافع رغبة، تُوفي زين العابدين علي بن الحسين، فلما وضع لِيُغَسَّل وجد المغسلون في أكتافه نُدُوبًا سوداءَ، فتفكروا من أين أتت تلك الندوب في ظهر ذلك الرجل الصالح؟ ثم اكتشف الأمر لقد كان هذا العابد يستتر بظلمة الليل وحُلكة الظلام، حتى ينقل أكياس الطعام إلى أسر فقيرة، لا يدرون من الذي كان يأتيهم بها، فلما مات زين العابدين، عُلِمَ أن تلك الصدقة كانت صدقته لَمَّا انقطعت عن أولئك الفقراء.
والوقفة الأخيرة -وما هي بأخيرة- أن في استحضار هذا الأمر مدد للسائلين في طريق العمل للدين والدعوة إلى الله، إن الذي يشخص ببصرة إلى الجزاء الأخروي ينظر إلى العوائق، فإذا هي يسيرة، وإلى الصعوبات فإذا هي هينة، وإلى الضيق فإذا هو سَعة؛ لأنه ينتظر جزاء أتم وأوفَى، قُتل مصعبُ بنُ عمير، وقتل حمزةُ بنُ عبد المطلب، فلم يوجد ما يُوارَى به أحدهم إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه، وعند الله -تبارك وتعالى- الجزاء الأوفى الأتم الأكمل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23).