E N D
دعوة يونس -عليه السلام- • نحن في قرية يقال لها: "نينوى" عاش أهلُها في ظلمات الجهل والشرك زمانًا طويلًا، فأرسل الله -عز وجل- إليهم رجلًا من أبناء يعقوبَ -عليه السلام- بعثه الله تعالى إلى غير الإسرائيليين، وهو يونس -عليه السلام- حمَلَ إليهم مِشعل الإيمان، ورفع لهم عَلَم التوحيد، دعاهم إلى الله -عز وجل- ولكن القوم -كعادة المشركين والمكذبين في كل زمان- أَبَوْا أن يسلكوا طريق الهدية، وآثروا أن يسلكوا طريق الشر والغِواية. • فهذه قصة يونس، تظهر أمامنا عَيَانًا؛ لنستفيد منها التجربة الماضية، والسنة التي جرت في عباد الله تعالى المؤمنين والمكذبين على حد سواء.
قوم يونس هم من الآشوريين الذين أسسوا حضارة عُرفت باسمهم، ونُسبت إليهم، وموطنهم حول نهر دجلة وروافده من بلاد العراق. أشهر مدنهم: آشور، ونينوى، وتقع هذه المدن في الجهة المقابلة لمدينة الموصل الحالية. والآشوريون نشئوا في البادية، إلا أنهم تغلبوا على أهل المدينة، وأسسوا دولتهم وحضارتهم، وكانت لهم عاصمتان؛ الأولى: آشور وهي عاصمة فصل الشتاء، ونينوى وهي عاصمة فصل الصيف. • عبدوا الآشوريون أصنامًا لهم سموها بأسماء مدنهم، وجعلوا إلههم الأكبر هو آشور، وبه يسمَّى ملِكهم، وكانوا يتوجهون بالعبادة لآشور -أي: للمك- ويتقربون إليه بالعطايا، يسيرون على أمره ونهيه.
دعوة يونس -عليه السلام- للآشوريين انطلقت من نينوى، يدل ذلك ما حدث مع نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- يومَ أن ذهب إلى الطائف، حين التقى بعداس غلام بني ربيعة النصراني، وحين قدَّم عدَّاس للنبي -صلى الله عليه وسلم- قطفَ عنبٍ، مد النبي يديه إليه قائلًا: ((بسم الله)) وذلك قبل أن يأكل، فقال عدَّاس: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((مِن أي البلاد أنت؟))فقال: أنا من نينوى، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أَمِنْ قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟))قال له عدَّاس: وما يدريك ما يونسُ؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ذلك أخي، كان نبيًّا، وأنا نبيٌّ)).
نبي الله يونس دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وأمرهم بنبذِ ما هم عليه من عبادة غير الله، ومن خُلق سيء وظلم وعدوان على الناس، ومن البدهي أن الله -عز وجل- يمده بالمعجزات وينزل عليه الوحي، لكن القوم أسرُّوا على ضلالهم وفسادهم، وتمسكوا بعبادة ملكوهم وأوثانهم، فلما طال الزمن وهم على ضلالهم، غضِبَ يونس -عليه السلام- من عنادهم، فأنذرهم عذاب الله الذي سينزل عليهم إن هم أسروا على ما هم عليه من الكفر والضلال، فلما ظهر العذاب فوق الرءوس، فَرَّ -عليه السلام- من بلدهم، واتجه إلى الشرق حيث البحر والسفن؛ ليتمكن من السفر بعيدًا عنهم.
لكن القوم بعد أن تركهم يونس -عليه السلام- خافوا من نزول ما خَوَّفهم منه، وقذف الله في قلوبهم التوبة والرجوع إلى الله، فلبسوا مسوح الرهبان، وقاموا بالتوبة إلى الله، وأخذوا يستغيثون ويتضرعون إلى الله؛ ليكشف عنهم غضبه، وينزل عليهم رحمته، فاستجاب الله لهم، ورفع العذاب بعد أن كان قد اقترب منهم، وأظلهم.
يقول ابن كثير -رحمه الله-: بعث الله يونس -عليه السلام- إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله -عز وجل- فكذبوه، وتمردوا، وظلوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليهم من أمرهم، خرج من بين أظهرهم، ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث، فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله -عز وجل- وصرخوا، وتضرعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فَرَغَتِ الإبل وفصلانها، وخارت البقرة وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعةً عظيمةً هائلةً، فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذابَ الذي كان قد اتصل بهم سببه، ودار على رءوسهم كقطع الليل المظلم.
ولهذا قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء: الآية: 87). وقال عن قومه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس: الآية: 98). • أي: هَلَّا وجدْتَ فيما سلف من القرون قرية آمنت بكاملها، فدل على أنه لم يقع ذلك، بل الأمر كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (سبأ: الآية: 34).
مضت الأيام الثلاثة التي وعد بها يونس قومَه، ثم جاء ينظر موعودَ الله فيهم، ولعله كان معتزلًا لهم، لم يدرِ بما فعلوه ولا ما أحدثوه من التوبة والإنابة، فوجدهم لَمَّا أطَلَّ عليهم سالمين، فأغضبه ذلك، وكان جزاء الكاذب عندهم أن يُقتل، فخرج هاربًا من قومه؛ خشيةَ أن يُقتل، وسار حتى أتى شاطئ البحر، ويبدو من التأمل في نصوص القرآن الكريم في السنة، أن خروجه لم يكن بإذن من الله تعالى، ولذا وصفه الله -عز وجل- في حاله تلك، بأنه كان آبقًا، والآبق: هو العبد الهارب من سيده كما قال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (الصافات: الآتيان: 39- 40). وفي آية أخرى قال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} (الأنبياء: من الآية: 87) فالآية. تشير إلى غضب يونس -عليه السلام- من قومه، كما تشير إلى فراره منهم، وأن القوم آمنوا بعد فراره، فنفعهم إيمانهم، ورفع الله -عز وجل- عنهم عذاب الخِزي الذي كاد أن يحل بهم، ومتعهم الله تعالى في الدنيا، وسوف يُمتعون في الآخرة بإذنه تعالى؛ لإيمانهم وتقواهم.
يقول ابن كثير: وقد اختلفوا المفسرين في انتفاعهم بهذا الإيمان في الدار الآخرة على قولين، والأظهر من السياق انتفاعهم به لإطلاق مسمى الإيمان عليهم، والإيمان يُنقذ من عذاب الأخيرة.
ويفسر العلماء ذهاب يونس مغاضبًا بما يليق بمقام النبوة بعدة أوجه: • الوجه الأول: أنه ذهب مغاضبًا من أجل ربه، والمؤمن يغضب لله إذا عُصي أمرُ ربه -عز وجل- وتركت طاعته. • والأمر الثاني: أنه غضِبَ على قومه من أجل كفرهم، واشتد عليهم، وفر منهم، ولم يصبر على أذاهم. • والثالث: أنه ترك الناس وذهب مغاضبًا للملك الذي يتولّى أمور الناس؛ لأنه لم يكن معه في دعوته لهم، ووقف منه موقفًا سلبيًّا.
وهذه الأقوال لعل مِن أرجحها الرأي الأول، وهذا الرأي يدل على أن المغاضبة أيًّا كان المراد بها على ضيق صدر يونس، تدل هذه المغاضبة على أن يونس ضاق بهم ذرعًا، وأنه لما تحمل أمر النبوة قام به بمشقةٍ وعُسرٍ، ولذا لم يصبر على قومه، وكان يتوعدهم بالعذاب ينزل بهم، فلما أظلهم العذاب تركهم، لكنهم تابوا، فرفع الله عنهم العذاب، وعاتب الله يونس؛ لأنه تعجل بتركهم، أو لأنه لم يكن له أن يتركهم إلا بإذن الله تعالى.
وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها، وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقًّا، لكنه في الحقيقة بعض تكاليف الرسالة، فلا بد لمن يكلفون بحمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا، ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدءوا فيها ويُعيدوا، لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب مهما واجهوا من إنكارٍ وتكذيبٍ، أو عُتو وجحود، فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فلعل المرة الوحدة بعد المائة هي التي تصل، أو لعل الواحدة بعد الألف، ولو صبروا هذه المرة، وحاولوا، ولم يقنطوا، لتفتحت لهم أرصاد القلوب.
طريق الدعوة ليس طريقًا هينًا ولا لينًا، واستجابة نفوس للدعوات ليست قريبةً ولا يسيرةً، فهناك رُكام من الباطل والضلال، والتقاليد والعادات، والنُّظم والأوضاع، كل هذا يَجْثِمُ على القلوب، فلا بد من إزالة هذا الركام. • نبي الله يونس ذهب مغاضبًا، والله -عز وجل- نَبَّه -صلى الله عليه وآله وسلم- ووعظه قائلًا: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (القلم: من الآية: 48). يأمر الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- ألا يكون كأخيه يونس في الغضب، والضجر، والعجلة، ويوم أن دَعَا ربه وهو في بطن الحوت، كان مكظومًا. • يقول ابن عباس ومجاهد أي: مملوءًا غمًّا. ويقول عطاء وغيره أي: مملوءًا كَربًا، والفرق بينهما أن الغم في القلب والعقل، والكرب في النفس، وهذه من العواطف، ولا مانعَ من إرادة المعنيين معًا.
نبي الله يونس خرج من عند قومه، ذهب إلى البحر واستقل سفينة؛ لتأخذه بعيدًا عن قومه، وجد السفينة مملوءة، فركبها وصارت السفينة، ودخلت بركابها في البحر، فلما جاءها المَوْج من كل مكان، ثقلت بمن فيها، وتوقفت في عرض البحر، فاشتور الركاب فيما بينهم، واتفقوا على أن يقترعوا، فَمَنْ أصابته القرعة أَلْقَوْه في البحر، ليتخففوا منهم، وتنجو سفينتهم، فلما اقترعوا وقَعَ السهم على نبي الله يونس، فلم يجروا القرعةَ عليه؛ لصلاحه، لخُلقه، ثم أعادوا القرعة ثانيةً، وثالثةً، وفي كل مرة تأتي عليه، فألقوه في الماء حيث لا مناصَّ من ذلك، وجرى قدر الله -تبارك وتعالى- فأتى حوت عظيم، فالتقمه في الحال، إلا أن الله -جل وعلا- أمر الحوت ألا يأكل لحمه، أو يكسر عظمه، ابتلعه الحوت واستقر يونس في بطنه حيًّا، فماذا فعل في هذه الظلمات؟
أخذ يسبح ربه، ويعبده، واتخذ من بطن الحوت مسجدًا، واستغرق في الذكر والدعاء، نادى ربه أن ينقذه من هذه الظلمات، وتاب عما كان منهم بعدما رأى أنه تضايق في ساعة الدنيا فضيق الله عليه في بطن الحوت، صور الله ذلك بقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين} (الأنبياء: الآية: 87) مَحَّصَ الله تعالى نبيه، وأدبه، وسمع صوته، ورأى ما عليه من الإخبات، وخرج صوته بالتسبيح والتهليل لله -عز وجل- فأمر الحوت أن يقذفه على الساحل، فقذفه عندئذٍ ضعيفًا نحيلًا هزيلًا، كما قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء: الآية: 88) نجاه الله تعالى، إلا أنه كان عاريًا، يحتاج إلى ستر وظل وطعام وشراب، فأتم الله تعالى عليه فضله، وأنزل الله -عز وجل- عليه نعمه، قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} (الصافات: الآتيان: 45- 46). الآية تشير إلى أنه أُلقي في العراء وهو ضعيف نحيلٌ، إلا أن الله -عز وجل- تداركه بنعمه، كما قال: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} (القلم: الآية: 49).
أنبت اللهُ -تبارك وتعالى- عليه الشجرة من يقطين، وابن عباس -رضي الله عنه- يقول: "هو القَرْعُ". فإن قيل: ما الفائدةُ في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟ فالجواب: أنه خرج كالفرخ -على ما وُصِفَ- قد ذاب جِلْدُه، فأدنى شيء يضر به يهزيه، وفي ورق اليقطين خاصيةٌ، وهو أنه إذا ترك على شيء لم يقربه ذباب، فأنبته الله عليه؛ ليغطيه ورقها، وليمنع الذباب ريحه أن يسقط عليه فيؤذيه.
قال ابن كثير -رحمه الله-: وذكر بعضهم في القرع فوائد؛ منها: سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثمره نيئًا ومطبوخًا، وقشره أيضًا، وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يحب الدبان، ويتتبعه من نواحي القصعة. • الخلاصة: أنه بقي على هذا الحال حتى أصبح سليمًا معافًا قويًّا.
أتم الله على يونس نعمته، فكلفه بالرسالة مرةً أخرى، وأرسله لقوم صدقوا به وأطاعوه. قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (الصافات: الآية: 148). ولا مانع أن يكون هم قومه السابقون، وحينئذٍ تكون دعوتهم من قبيل التذكير، ومن الممكن أن يكون هؤلاء قوم آخرون مع قومه، وهو الأَوْلَى، والله أعلم.
وما نزل بيونس -عليه السلام- تمحيص وتأديب، ولذلك كانت رحمة الله معه، وجرت أقدر الله لتحقق مراده -سبحانه وتعالى- في إعادته لدعوة الناس بعدما عاش هذه المدة سجينًا في بطن الحوت. ولا ينبغي لأحد أن يتصور نقصًا بيونس -عليه السلام- لأنه رسول الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه عنه ابن عباس -رضي الله عنه-: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)). وابنُ حجر يقول: خص يونس بالذكر؛ لِمَا يخشَى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله؛ لسد هذه الذريعة.
فإذا أردنا أن ننتقل إلى أهم ما يستفاد من قصة يونس -عليه السلام- وما تقوم عليه الدعوة من ركائز في هذه القصة، فإننا نجد مَعْلَمَ الصبر من أعظم وأهم هذه المعالم من هذه الدروس، ذلك أن طريق الدعوة إلى الله -عز وجل- طريق محفوف بالمخاطر والصعوبات، يلقى الداعية إلى الله -عز وجل- في طريق دعوته ما تشيب له رءوس الوجدان، ويعاني في هذا الطريق من الصعوبات والأهوال ما الله -عز وجل- به عليم.
وعلى الداعية ألا يكون ضجرًا إذا وجد السدود من الناس، وألا يفقد صبره إذا وجد من الناس الإعراض، فإنها سنة ماضية، أن يبذل الداعية أسبابه، وأن يلقى من العَنَت والضيق والمشقة ما الله -عز وجل- به عليم في طريق هذه الدعوة المباركة، فهي سنة الأنبياء إذن، ملة أول أنبياء الله -عز وجل- إلى آخرهم وهو نبينا، صلى الله عليه وآله وسلم.
المعلم الثاني: أهمية الإخلاص في العبادة والعبودية، فإن الدعوة إلى الله لا يعين على تحمل مشقاتها، ولا بلوغ غايتها مثل الإخلاص في طاعة الله -عز وجل- فإن القوة التي تعين على أداء مهام الدعوة، وعلى القيام بمشاقها، والتي تساعد في الوصول إلى القلوب والعقول، هو هذه القوة الكاملة في طاعة الله تعالى، وفي التعبد له، وفي التقرب إليه، وفي التذلل له، فهو سبحانه العليم بالقلوب، وهو سبحانه القادر على تسخير كل قوى هذا الوجود؛ ليكون في عَوْن عبده وفي طاعته، إذا كانت حالة الدعاة إلى الله أمس حاجة، ولا يتم لهم نوال ما أردوا إلا بإخلاص العبودية لله، ولا يتم لهم ذلك إلا بالالتزام بحق المعبود في كل قولٍ وفعلٍ وعملٍ، وهذا الذي يمكِّن من القيام بواجب الدعوة من جهة، وتنتصر بها الدعوات من جهة أخرى.
لذلك الصلة بالله -تبارك وتعالى- هي من أعظم ما يثبِّت قلب الداعية، وإخلاص العبادة لله -عز وجل- هو من أنجح ما يستعمله الداعية لنصرة دينه ودعوته، وتأمل ذا النون -عليه السلام- وهو في أشد حالاته من الكرب ينادي ربه، ويناجيه، يستغفره ويسبحه، ويذكره، ويدعوه: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. وفي الحديث من حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((دعاء ذي النون في بَطْن الحوت:{لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}مَن يدعو به رجل مسلم في شيء قط، إلا استجيب له)).
وقد جَمَعَ في دعائه هذا بين التوحيد والتنزيه، والاعتراف بالتقصير، فالتوحيد لا إله إلا أنت، والتنزيه قوله: سبحانك، والاعتراف بالتقصير في قوله: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. • إذن، ذكر الله عدة الداعية، ذكر الله هو من أعظم ما يُعِدُّ الداعية في مواجهة المحن والفتن، وما يلاقيه في دعوته، وهذا الذي -كما قلنا- يثبت القلوب من جهة، وينصر الداعية من جهة أخرى، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يبين لنا فضل العبودية والعبادة، لا سيما في أوقات الفتن والمحن والكروب، فيقول كما في حديث مَعقل بن يسار -رضي الله تعالى عنه- في (صحيح مسلم): ((العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ)). هكذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- والهرج: هو زمان الافتتان، أو زمان الاقتتال، واضطراب الأحوال، واختلاط الحابل بالنابل.
إذن، الإخلاص في العبادة والاجتهاد فيها هو من أعظم ما يحتاجه الداعية، وتمس حاجته إليه. • وبهذا قد نكون قد أتينا على المهم من هذه الركائز وهذه الأسس التي تقوم عليها دعوة ذي النون، عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام.
دعوة موسى -عليه السلام- • نبي الله موسى -عليه السلام- من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله تعالى لقومه وللمصريين، وهو من أولي العزم، أي: ممن خصهم الله -عز وجل- بالعزم القوي، والصبر الجميل، والتحمل الشديد، ولذا تقررت قصته في القرآن طويلًا، وأعيد ذكره في القرآن كثيرًا، وكانت قصته من أكثر القصص القرآني وردًا.
وقصة موسى -عليه السلام- تبدأ بيوسف -عليه السلام- فيوسف -عليه السلام- كما مر معنا، جمع بني إسرائيل في مصر، وجاء بهم مع أبيهم يعقوب -عليه السلام- ليعيشوا على أرض مصر، جاء بهم من البادية ليقيموا في الحاضرة -حاضرة مصر، وغيرها من المدن- وعاشوا معه وقتئذٍ منعمين، ممتعين بسلطانه وعِزته، وكان الرعاة -وهم الهكسوس- ملوك مصر يوم أن جاء آل يعقوب، فتعاون الإسرائيليون مع الرعاة، ولم يختلطوا بالمصريين، وعاشوا في عزلة بعيدًا عن المصريين. إلا أن المصريين تمكنوا من طرد الهكسوس مع بداية حكم الأسرة الثامنة عشر، فتغير حال الإسرائيليين، وانقلب وضعهم في المجتمع، وأخذ الفراعنة يتعاملون معهم كدخلاء ومتعاونين مع الأعداء، وكان من نتيجة ذلك الصنيع أن جعل فراعنة هذه الأسرة في تكليف بني إسرائيل بالشاق من الأعمال، وأرهقوهم، وأتعبوهم، فجعلوا منهم من يبني، ومنهم من يحرث، ومنهم من يزرع، ومنهم ما لم يكن له عمل، ففرضوا عليه الجزية. وهكذا ساموا بني إسرائيل سوء العذاب.
وقد أصدر فرعون ذلك الزمان قرارًا فيه: أنه لا يُولد ولد ذكر للإسرائيليين إلا قُتل، وأما الإناث فإهن يتركن، ولهذا قال الله -عز وجل-: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} (القصص: من الآية: 4). وقال أيضًا: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: من الآية: 4). فهو تارةَ يقسِّم بني إسرائيل إلى فئات متعددة، ففئة للزرع والحرث، وفئة للبناء والتشييد، وفئة للأعمال الشاقة، وهكذا. ثم إنه أضاف إلى هذا كما قال الله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
كان الحامل على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن أبيهم إبراهيم -عليه السلام- من أنه سيخرج من ذريته غلام، يكون هلاك مَلِك مصر على يديه، وذلك -والله أعلم- حين جرى على "سارة" امرأة الخليل -عليه السلام- من ملك مصر من إرادته إياها على السوء، ومن عصمة الله تعالى لها، فكانت هذه البِشارة مشهورة في بني إسرائيل، فتحدث بها المِصريون فيما بينهم، فوصلت إلى فرعون، فذكره له بعض أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده، فأحسَّ هذا الطاغية بالخطر على عرشه ومُلكه من وجود هذه الطائفة في مصر، ولم يكن ليطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد بمئات الألوف، وقد يصبحون إلبًا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب، عندئذٍ ابتكر هذه الطريقة الخبيثة؛ للقضاء على هذا الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده، ولا تعتقد بإلوهيته.
فماذا كان من أمره؟ أن سخرهم في الشاق الخطر من الأعمال، واستزلهم بشتى أنواع العذاب، وبعد ذلك يذبح الذكور من الأطفال عند الولادة، ويستبقي الإناث؛ كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم، وهذا يُضعف قوتَهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث فوق ما يُصب عليهم- والعِياذ بالله تعالى- من العذاب والنكال. • وقيل: إن سبب هذا القرار الظالم الغاشم، أن الكهنة والمنجمين أخبروا فرعونَ بأن مولودًا قد أظل زمانه من بني إسرائيل سوف يسلبه المُلك، ويبدِّل الدين، ويخرجه من مصر. وقيل: إن السبب رؤية رآها الملك من أن نارًا أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دورَ مصر جميعًا، وأحرقت سكانها، ولم تضر بني إسرائيل، فأوَّلها المعبرون بغلام إسرائيلي يولد، يدمر ملكَ فرعون أو ملك مصر التي يملكها فرعون.
وقد ورد أنه قيل لفرعون: أفنيتَ النسل، وهؤلاء خَوَلُك وعمالك، فكان من أمره أن أمر بقتل الغِلمان عامًّا، وباستحيائهم عامًّا، فوُلد هارون -عليه السلام- في السنة التي يُستَحْيَا فيها الغلمان، وأما موسى -عليه السلام- فقد كان ولادته في السنة التي كان يؤمر فيها بقتل الغلمان. • يصور القرآن الكريم فرعون ذلك الزمان، فيقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
وعليه، فإن المجتمع المصري -وقتها- كان منقسمًا إلى قسمين؛ قسم هو القسم الإسرائيلي وهم أبناء يعقوب، والقسم الثاني هم الأقباط، وهم سكان مصر الأصليون، عليهم يقوم نظام المُلك، قد خضعوا لجبروت فرعون الذي ادعى الألوهية، واتخذ المصريون منه إلهًا. كان الإسرائيليون وقتئذٍ على دين يوسف -عليه السلام- إلا أنهم غيروا فيها وبدلوا، وأدخلوا فيهم بعضًا من ضلالات المصرين، وتشوهت عقيدة التوحيد لديهم، فأصبح خليطًا من الشرك والتجسيد، ولم يبقَ معهم من دين آبائهم إلا مسماه فقط، أما المِصريون فكانوا عبدةَ أصنام وأوثان وحيوان، ويتخذون فرعونَ إلهًا أكبرَ، ولذا كانوا جميًعا يحتاجون إلى رسول يدعوهم إلى دين الله الحق، وقد جاءهم موسى -عليه السلام- بهذا الدين ومعه أخوه هارون.
وفي ولادة موسى -عليه السلام- وقعت عجائب، تدل على عظيم قدرة الله تعالى وعنايته، وكما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: الآية: 21) لما أصدر فرعون قراره بقتل مَن يولد للإسرائيليين من الذكور وضَعَ كل المحاذير؛ حتى لا يُفلت أحدٌ من القتل، فماذا كان من أمر الله -عز وجل- والله -تبارك وتعالى- هو الغالب على أمره، وهو الذي يبلغ أمره -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِه} (الطلاق: من الآية: 3). حتى يتحقق قدر الله نرى الحوادث تسير على نحو عجيب مدهش غريب، ينطق بقدرة الله تعالى وحكمته، ذلك أن أم موسى حين حمَلت به أنكرت حملها على الناس، فلم يكتشفها أحد من زبانية ذلك الطاغوت، فلما وضعتْهُ ألهمها الله تعالى أن تتخذ تابوتًا، وتضع غلامها الرضيع فيه، فكانت ترضعه ثم تضعه في التابوت؛ مخافةَ أن يكتشفه أحد، وألهمها الله تعالى أن تضع التابوت في البحر أمام بيتها، وأن تربط التابوت بحبل تمسك بطرفه؛ للتمكن من إرضاعه، وفي نفس الوقت تحميه من جند فرعون ومن عيونه، إلا أن الله -عز وجل- شاء أن ينقطع الحبل، وأن تتقاذف الأمواج التابوتَ، وأن تأخذه بعيدًا، لكنها إنما أخذتها إلى جوار قصر فرعون.
ألهم الله -عز وجل- أم موسى بأمرين؛ ألهمها أن ترضعه عقبَ ولادته وأن تشبعه، ولا تفعل كما تفعل الإسرائيلياتُ: إذا ولدنا ذكرًا؛ لأنهن كُنَّ يقتلن أولادهن بأيديهن، أو يسلمنه إلى جنود فرعون ليذبحوه. وألهمها إذا خافت عليه من جنود فرعون، أن تلقيه في البحر بعد أن تضعه في تابوت، وأخبره الوحي والإلهام بأنه لن يُصاب بأذى، وأن الله سيعيده إليها، وأن الله تعالى جاعل له شأنًا، وأن الله -تبارك وتعالى- راده إليها، وأنه سيكون رسول الله إلى الناس في زمانه، وعليها ألا تخاف من أي أذي كالضياع أو المَوْت، وألا تحزن لبعده عنها، أو لا تخاف عليه من القتل.
تُشير الآيات إلى أن التقات آل فرعونَ لموسى من البحر، وتربيته في بيتهم، كان ذلك رغبةً في أن يكون قرة عين لهم وهم لا يشعرون كما قال الله، لا يشعرون أنه سكون لهم عدوًا وحزنًا، وهذا مصداق قول الله -عز وجل-: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} (القصص: من الآية: 21). وصل الوليد إلى بيت فرعون، وأصبح مكفولًا برعاية المَلك وزوجته، كما قال الله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (القصص: من الآية: 8). ليكون اللام هنا لام العاقبة، ولام الصيرورة؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرةَ عين، فكان عاقبة ذلك أن صار لهم عدوًا وحزنًا، فذكر الحال بالمآل، كما الشاعر:وللمناية تربي كلُّ مرضعةٍ ، ودور ما لخرابِ الدهر نبنيها
التقته آل فرعون، نعم، التقته جنده حتى وصل الوليد إلى بيته. • تدخلت آسية بنت مُزاحم زوجة فرعون؛ لتحتفظ بهذا الغلام الوليد، فوافق فرعون على المحافظة على الرضيع، فبدأت فالبحث عمن ترضعه بنفقة، لكنه لم يقبل ثديًا، ولم يأخذ طعامًا، فحاروا في أمره، واجتهدوا على تغذيته بكل سبيل، فلم يمكن. أرسلوه إلى السوق لعرضه على النساء، عسى أن ترضعه إحداهن، وكانت أم موسى كلفت أختَه بتتبع آثاره ومعرفة أخباره من بُعد؛ حتى لا يكتشف أمرَه أحدٌ، فلما رأته في السوق، وشاهدت إعراضه على النساء، قالت لهم: هل أدلكم على أهل بيت يهتمون به، ويكفلونه، ويرضعونه، وهم له ناصحون، فلما وصفتهم وهم له ناصحون، سألوها: وما يدريك بذلك؟ لعلكِ تعرفين أهلَه؟ فقالت: لا، ولكن أردْتُ وَهُمْ للملك ناصحون، فدلتهم على أم موسى -عليها السلام- فكلفوها بإحضارها، فأحضرتها لهم، والصبي يبكي في يدي الفرعون من الجوع، فدفعه إليها، فقبِلَ الصبي ثديها، ورضَعَ منها، فسألوها: لِمَ ارتضع منك ولَمْ يرتضع من غيرك؟ قالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أُوتَى بصبيٍّ إلا ارتضعَ مني.
طلب فرعون من أم موسى أن تبقى في القصر؛ لترضعه، فرفضت لحاجة زوجها وأولادها، فأعطَوْها الصبي بأجر تأخذه. • وهكذا عاد موسى -عليه السلام- إلى أمه، واستقر أمرها، وسعِدت بوليدها، وفي ذلك يقول الحق: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (القصص: من الآية: 10 - 13).
أتم موسى مدةَ الرضاع عند أمه، وبعدها انتقل إلى بيت فرعون؛ لتشرف آسية على تربيته، وتقوم بعدئذٍ على شئونه، وصار معروفًا بين المصريين أنه ابنُ فرعون، وكان يسمونه موسى بن فرعون، ويعرفون أن الإسرائيليين أخواله من الرضاعة. وحدث وهو صغير أن كانت آسية تداعبه وتلاعبه، فناوله فرعون، فلما حمَله أخذ الغلام بلحيته، فنتفها، فَهَمَّ بقتله؛ لأنه تصور أنه هو هو، قالت آسية: إنما هو صبي لا يعقل، ووضعت أمامه ياقوتة حمراءَ وجمرة نار، وقدمته لموسى الصغير، فَمَدَّ يده وأخذ الجمرةَ، فحدثت عقدة لسانه، فدرأت عن موسى القتل بذلك.
كبُر موسى -عليه السلام- وصار له شأن في مصر، وكأن يأكل مما يأكل فرعون، ويلبس من مَلبسه، ويركب مركبه، إلا أنه كان يحب العدل وينفر من الظلم، ولذلك عز به بنو إسرائيل وأحبوه، وامتنع القِبط عن إذلاهم وتسخيرهم. • وفي يوم ذهب موسى إلى أطراف مدينة منف، ووصلها بعد نصف النهار، وقد أغلقت الأسواق، ورجع الناس إلى بيوتهم، فوجد رجلين يقتتلان، أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه. والمراد بالشيعة هنا: الأتباع وأصحاب المذهب؛ لأن الإسرائيليين كانوا على شيء من دين يوسف -عليه السلام- وأما عدوه فهو الذي يعبد الأصنام؛ لأن الجميع كانوا يتصورن موسى ابنًا لفرعونَ، ويفسرون تعاطفه مع الإسرائيليين بسبب رَضاعه منه.
واقتتل هذان الرجلان، فاستغاث الإسرائيلي بموسى، ورأى موسى أن القبطي قد اعتدى، فهو معتدٍ سبَّاب، شتم الإسرائيليين جميعًا، فجاء إليه وضربه ضربةً بقبضة يده، فقضى عليه، يقول قَتادة: أراد القبطيُّ أن يسخر الإسرائيلي؛ ليحمل حطبًا، فأبَى، فشتمه، فاستغاث الإسرائيلي بموسى -عليه السلام- ومن المعلوم: أن إغاثة المظلوم دين في المِلل كلها، ولم يكن موسى مريدًا لقتله، ولذا ندِمَ على فعله، وتاب لربه، وطلب منه المغفرة، قال تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (القصص: 14-15).
يتحدث المفسرون والمؤرخون عن عمر موسى في هذا الوقت، ويوردون آراءًا كثيرةً تَبَعًا لاختلافهم في المراد بالحُكم والعلم؛ لأن الله -عز وجل- قال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (القصص: 14). بعض المفسرين يقول: إنه قد بلغ مبلغَ النبوة، أي: بلغ أربعين سنةً. والبعض الآخر يقول: بل بلغ سنًّا من السن الذي يكتمل فيه فَهمه وإدراكه، ولم يكن قد بلغ مبلغ الأربعين، بل كان موسى -عليه السلام- وقتها لا يجاوز عُمُره الثلاثين، وهذا هو الصحيح؛ لأنه عاش صغيرًا عند مدينَ، عشر سنواتٍ على الأقل، وتزوج وعاد إلى مصر مرةً أخرى، فأتاه الوحي عند عودته بسيْنَاء في الوادي المقدس. وإذا علمنا أن سنة الله -عز وجل- أن يُنَبَّأ النبي عند الأربعين، فإننا نعلم بهذا أنه وقتَ أن قتل القبطيَّ، لم يكن قد بلغ الثلاثين عامًا.
فعل موسى فعلته، وفي صباح اليوم التالي أصبح خائفًا، يسير بين الناس يترقب الأخبار والحوادث، وبينما هو كذلك إذَا بالرجل الذي استنصره بالأمس يستصرخه، يستغيث به مرةً ثانيةً؛ لينصره على قبطي آخر يقاتله، فرد عليه موسى غاضبًا: إنك سيء التفكير، لا تقدر الأمور كما ينبغي، عندها سَمِعَ الإسرائيلي هذا اللوم العنيف من موسى، فاهتم في قتل القبطي، وخاف القبطي من وجود موسى، فحذَّره من مساعدة الإسرائيلي؛ حتى لا يقتله كما قتل نفسًا أخرى بالأمس، وصوَّر القرآن الكريم هذا بقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} (القصص: 18-19).
فالآيات توضح أن الإسرائيلي استغاث بموسى، وأن موسى عنَّفه، ويجب أن نعلم أن الذي أراد البطش بالقبطي هو الإسرائيلي وليس موسى، وإنما وجه القبطي كلامَه لموسى؛ مخافةَ أن يساعد الذي هو من شيعته، لأن حادثة الأمس صارت حديثَ المدينة، والملأ علموا أن موسى هو القاتل، وأنهم يجِدُّون في البحث عنه في كل أرجاء المدينة؛ للقبض عليه، وقتله. • ومن البعيد أن يقابل موسى الرجلَ الذي يستنصره في المرة الثانية ويعنفه بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}.ثم يساعده مرةً أخرى. إذن مرجع الضمير في: {أَرَادَ}للإسرائيلي، والضمير في: {قَالَ}للقبطي، وهذا على الراجح من أقوال أهل العلم في التفسير.
أنقذ الله موسى من فرعون وملئه بعدما جَدُّوا في البحث عنه؛ ليقتلوه. وفي هذا يقول تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (القصص: 20-21). هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، قيل: إنه ابن عم فرعون، لَمَّا علم بما قرره الملأ بحث عن موسى، وجاءه من مكانٍ بعيدٍ مسرعًا، وأخبره بأن الملأ يبحثون عنه؛ ليقتلوه على قتله القبطي، وعندها نصحه بترك المدينة، وأن يخرجَ من مصر بالكلية؛ حتى لا يقع في أيدي أعدائه، واستمع موسى لنصيحة الرجل، وخرج من المدينة إلى جهة المشرق؛ لينتقل السياق بموسى إلى بلدةٍ جديدةٍ، ومكانٍ جديد، وصفحةٍ جديدة، من صفحات قصة موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- عندما خرج من المدينة متوجهًا تِلْقَاءَ مَدْيَنَ.
وهذا ما نتناوله مع بقية أجزاء القصة في المحاضرة المقبلة إن يسَّر الله تعالى وأعان. هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
قصة موسى -عليه السلام- في مدين • سبقَ أن علمنا أن موسى -عليه السلام- خرج من المدينة خائفًا يترقب، ولم يكن يعرف وِجهةً، وإنما سار تلقاء وجهه، وفي هذا قال الله -عز وجل-: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} (القصص: الآية: 22). ومدين: اسم مدينة على البحر الأحمر، وتقع تجاه تبوك بين وادي القرى والشام، وسميت القبيلة باسم المدينة. وقيل: إن اسم مدين اسم قبيلة سكنت هذا المكان، ومنه قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (العنكبوت: من الآية: 36). وليس هو شعيب الذي وُجد في زمن موسى -عليه السلام- على ما سبق ترجيحه.
قال ابن عباس -رضي الله عنه- كما في (تفسير ابن كثير): "سار من مصر إلى مدين، لم يأكل إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، فسقطت نعلَا قدميه من الحفاء، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرَى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة". • وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "حففت على جمل ليلتين حتى صبَّحت مدين، فسألت عن الشجرة التي آوَى إليها موسى، فإذا شجرة خضراء، فأهوى إليها جملي وكان جائعًا، فأخذها جملي، فَعَلَجَها ساعة، ثم لفظها، فدعوت الله لموسى -عليه السلام- ثم انصرفت".
توجه موسى ناحية مدين وجَدَّ في السير حتى وصل إلى منطقة فيها بئر ماء، توقف عندها ليستريح من هذا السفر الشاق الطويل، وجلس تحت ظل شجرة، ينظر الناس، ويشاهد أحوالهم، فإذا هم عدد من رعاة الغنم والماشية جاءوا بقطعانهم لتشرب الماء الذي تريد، ورأى موسى -عليه السلام- فتاتين تقفان بعيدًا عن البئر، وتمنعان غنمهما من الاقتراب نحو الماء، أو نحو أغنام الآخرين، ولاحظ موسى -عليه السلام- أن الرجال يسقون غنمهم الماء صافيًا، وما بقي من ماء البئر فهو لغنم الفتاتين، ولاحظ أيضًا أنهما تتأخران في العودة؛ لأنهما تذودان غنمهما عن الماء؛ انتظارًا لانتهاء الرجال والشباب من السقي.
كان هذا مثيرًا لانتباهه، فبدأ -عليه السلام- وهو مجبول على الرحمة بالناس، والإحسان إلى من لا يعرف وعلى من يعرف، تقدم -عليه السلام- بسؤاله لهما: ما خطبكما؟ ما شأنكما؟ لماذا تدفعان ماشيتكما وتحبسانها عن الماء؟ فقالتا: لا نستطيع أن نزاحم الرجال والرعاة، ولهذا السبب فإننا نتأخر عن السقي، قال موسى: ولِمَ ترعيان؟ قالتا: إن أبانا شيخ كبير، لا يستطيع أن يأتي هو ليرعى، ولا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة؛ لضعفه، ووهن عظمه، وكِبر سنه، وعندما سمع موسى ما قالتا، لم يتوانَ في تقديم المساعدة لهما، وقال: سأسقي لكما إن أحببتما.