1.05k likes | 1.34k Views
الدرس الثامن. دعوة هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وما يستفاد منها.
E N D
دعوة هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وما يستفاد منها • مَرَّ ذكرُ هارون -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- في ثنايا قصة موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وهارون هو الشقيق الأكبر لموسى، وُلِدَ في السنة التي كان فرعون يدع القتل فيها، وقد قال المؤرخون: إن هارون أكبر من موسى بثلاث سنوات، كما ذكروا أيضًا: أنه تُوفِّيَ قبل موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بثلاث سنين، واسمه معرَّبُ من العبرية، وينطق فيها بالهمزة بدل الهاء، فيقولون: آرون بمعنى النشاط.
وهارون كلفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالرسالة استجابة لشفاعة موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- ولذا قال بعض السلف: ما شفع أحدٌ في أحدٍ شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًّا. وهذا نقله ابن كثير في (تفسيره) والله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قال على لسان موسى {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (القصص: 34) وقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29: 32).
قال ابن كثير: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه؛ فجعلناه نبيًّا، كما طلب في هذه الآية. فقال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (طه: 36) ونبي الله هارون عاش في مصر فلم يخرج منها إلا مع الإسرائيليين، يوم أن خرجوا جميعًا فرحلوا إلى سيناء، ولا شك أن هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- اتصف بصفاتٍ وتحلى بمميزاتٍ جعلت من موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يدعو الله تعالى أن يشركه في الرسالة، وأن يصحبه في رحلة الدعوة إلى الله؛ فقد كان هارون يتميز بالهدوء واللين، ويتمكن بذلك من مواجهة الصلف والعنت الذي كان يلقاه موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- من بني إسرائيل. هذا مع رباطة جأشه، وقوة ثباته بلا ضيقٍ ولا انفعالٍ ولا ترددٍ ولا تلعثم.
وكان هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كما قال موسى في تعليله لطلب الله تعالى أن يرسله معه قال: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} (الشعراء: 3) فهارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- تميز مع هذا بشدة بأسه وقوته، وكان أيضًا سديد الرأي له مع موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مشاركة بوجهة نظره؛ ولهذا رأينا من هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أنه يوم أن عبد قومه العجل، وجاءه موسى فأخذ برأسه ولحيته؛ وجدناه يقنع موسى بوجهة نظره ويبين له حجته؛ فيعيد موسى إلى لينه وإلى هدوئه، عندها دعا له موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وقد استخلف موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- هارون يوم أن ذهب لملاقاة ربه ليقوم على حال الناس فيدعوهم إلى الحق، ويبعدهم عن الهوى، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يحكي ذلك فيقول -وقال موسى لأخيه هارون-: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142) وقد علمنا أن بني إسرائيل انتهزوا فرصة غياب موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فانطلقوا يعمهون عبادةً للعجل، واستجابةً للسامري، واستهانوا بهارون لطيب خلقه ولين طبعه، فلما رجع موسى إليهم اعتذروا له وعادوا مرة أخرى إلى دين الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
كان هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- ردءًا لموسى يصدقه، ووزيرًا يخلفه، وداعية بالحق في وجوده، وقد توفِّي -كما ذكرنا- قبل أخيه، ولهذه الوفاة قصة ذكرها المفسرون، ومن كتبوا في قصص القرآن، ومن ذلكأن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أوحى إلى موسى أني متوفٍ أخاكَ هارون؛ فأتِ به إلى جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون نحو هذا الجبل فإذا هم بشجرة لم تُرَ شجرة قبلها، وإذا هم ببيت مبني، وإذا هم بسرير عليه فرش؛ فإذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك البيت والجبل وما فيه أعجبه؛ فقال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، فلما نام قبض الله روحه؛ فلما قُبِضَ رُفِعَ ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء.
فلما رجع موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إلى قومه، وليس معه هارون؛ عاد بني إسرائيل إلى سيرتهم الأولى؛ فبهتوا موسى حين قالوا: إن موسى قَتَلَ هارون؛ فلما سمع موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بهذا البهتان، قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل السرير وعليه هارون حتى نظروا إليه بين السماء والأرض؛ فعلموا أن هارون قبضه الله إليه، وبرأ الله -عَزَّ وَجَلَّ- موسى من اتهام بني إسرائيل له بهذه التهمة الشنيعة.
إن هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بقصته في صحبته لأخيه ومؤازرته له في الدعوة يعلم الدعاة فائدة عظيمة منها: أن على الداعية أن يستعين بمن يعينه في القيام بواجبه، وأن يستنصر بمن يثق به من أهل الثقة والديانة والأمانة، وأن على الدعاة أن يبحثوا عمّا في موطنهم، وبيئتهم من العناصر التي يمكن أن تكون دعمًا لدعوتهم من يدعم بالمال بالمال، ومن يدعم بالجاه بالجاه، ومن يدعم بنفسه وقوة بدنه فبذلك، وهذا فيه جري على عادة البشر في الاستعمال للأسباب المتاحة في الزمان والمكان؛ لنصرة القضية وإعانة الدعوة على تخطي صعابها.
وهذه القصة أيضًا توضح لنا أهمية الدعاة: فإن هارون -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- ما كان نبيًّا إلا بدعوة موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- والطلب من الله -عَزَّ وَجَلَّ- والالتجاء إلى الله؛ إذ هو القادر على كل شيء، المتصرف في كل أمر سبحانه لا شريك له ولا ند له
دعوة إلياس -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وما يستفاد من تلك الدعوة • إلياس -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- هو واحد من أنبياء بني إسرائيل، ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- قصته في كتابه فقال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (الصافات: 123: 132).
كان إلياس بعد موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بوقتٍ قصيرٍ، وهو من أهل مدينة بعلبك، الذين كانوا يعبدون صنمًا يسمى بعلًا، كما ورد ذلك في كتاب الله تعالى، دعاهم إلى التوحيد مستنكرًا عبادتهم لبعضٍ، ومستنكرًا تركَهُم أحسن الخالقين، تركهم الله ربهم ورب آبائهم الأولين، وفي هذا استنان بسنة الأنبياء والمرسلين في دعوتهم إلى التوحيد، كما استنكر إبراهيم عبادة أبيه وقومه للأصنام، وكما استنكر كل رسولٍ عبادة قومه الوثنيين.
ولكن كان إرسال إلياس في وقتٍ ظهرَ فيه غلو بني إسرائيل في المادية وظهر فيه إفراطهم في التجسيد؛ فجاءتهم المعجزات الحسية؛ لتحقيق شيء من التوازن النفسي بين طلبات الطبع اليهودي المادي، وبين متطلبات الإيمان والرسالة. • يقول النووي: كان إلياس على صورة موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وقوته، وقد نشأ في بيئةٍ حسنةٍ، وكان الإسرائيليون يحبونه ويقولون: إنه بشرى إليعازر لهم، وسيهلك الله بهم الملوك والجبابرة. حفظ إلياس ما عندهم من التوراة، وأظهر لهم المعجزات، وصاح فيهم مرةً بعد مرةٍ، ومن ذلك أنه صاح فيهم مرة صيحةً أرعبتهم وكادت أن تقتلهم، فقالوا: هو ساحر، ونسوا كل ما قالوه فيه، وهموا بقتله؛ فهرب منهم، وساروا وراءه؛ فانفلق الجبل ودخله إلياسين أو ألياسين أو ياسين، وكلها أسماء متعددة له -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
عاش في الجبل حتى بلغ أربعين سنة، ثم بعثه الله -عَزَّ وَجَلَّ- نبيًّا، وكَلَّفَهُ بالرسالة إلى قومه، وأمره أن يتوجه إلى الجبابرة والملوك؛ يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، أجرى الله على يد إلياس -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- عددًا من المعجزات، فهو تارة يدعو النارَ ألا تحرق امرأة الملك التي آمنت به فيستجيب الله تعالى له. ويأمر النار أن تخمد بأمره؛ فيستجيب الله تعالى لدعائه، ويحبس الماء عن القوم، حيث أنذرهم إن لم يؤمنوا أن يحبس عنهم الماء، فيصرون على الكفر فينحبس المطر، وتجف الأنهار وتغور العيون، ويموت الشجر لعلهم يؤمنون، لعلهم يرجعون، لكنهم لا يرجعون ولا يرعوون.
وتارة يدعو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فينزل الغيث، وتجري الأنهار، وتتفجر العيون، وحديث أهل التاريخ عن معجزات إلياس كثيرة، وإن كنا لا نقطع بها لورودها عن طريق أدلة ظنية إلا أنها معجزات حسية، أظهرها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لبني إسرائيل؛ بدءًا بنبي الله تعالى يوسف، وانتهاءً بعيسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
أرسل الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلياس إلى قومه من بني إسرائيل الذين أقاموا في مدينة بعلبك في أقصى الشمال، فنسوا عهد الله، وعبدوا الأوثان من دون الله، جاء ليذكرهم التوحيد، لكنهم استمروا على الضلال المبين، واتخذوا صنمًا من حجرٍ فعبدوه من دون الله تعالى، فما كان منه -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إلا أن قام يدعوهم بما أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه من الرسالة، وبما جدد الله تعالى على يديه من دعوة التوحيد؛ فناداهم بما بينهم من قربى ونسب وقال لهم: يا قوم؛ ليعلموا أنه حريص عليهم، أنه ساعٍ لمصلحتهم ألا تتقون ألا تخافون الله في عبادتكم غيره: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِين} (الصافات: 125، 126).
يقول القرطبي: "بعل" اسم صنمهم الذي كانوا يعبدونه، وبذلك سميت مدينتهم، والمعنى: أتدعون ربًّا اختلقتموه وهو هذا الصنم، وتتركون أحسن من يقال له خالق وهو الله، ربكم ورب آبائكم الأولين. • قرن إلياس -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لقومه بين ذلك الصنم وبين الله، بَيَّنَ أن الصنم حجر لا ينفع ولا يضر، لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنهم شيئًا، بينما الله تعالى هو خالقهم ورازقهم، وربهم ورب الناس أجمعين، لكنهم لا يلقون إلى دعوة الحق بالًا: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} (الصافات: 127، 128)، أي: لكن عباد الله المؤمنين هؤلاء قد نجوا من العذاب، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} (الصافات: 129) أي: على إلياس من الثناء الحسن الجميل إلى يوم الدين، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (الصافات: 130) أي: سلام منا عليه وعلى آل ياسين.
والمفسرون يقولون: إن {إِلْ يَاسِينَ}هو إلياس، ومن آمن معه جمعوا معه تغليبًا، كما قالوا للمهلب وقومه: المهلبون، واختار الإمام الطبري: أنه اسم لإلياس، فقال: إلياس وإلياسين، مثل: ميكال وميكائيل. • ويقال: إنه -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- تُوفِّيَ على سفح جبلٍ قريبٍ من مدينة حيفا، وهنالك قبره -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام
دعوة اليسع -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- • اليسع هو أحد أنبياء بني إسرائيل، ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- نبوته مع ذكر الأنبياء بقوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 86)، وقال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} (ص: 48). • اليسع نبي كريم من أنبياء الله تعالى لم يذكر القرآن شيئًا عن حياته، وكذلك لم نجد في السنة المطهرة شيئًا صحيحًا ثابتًا نعرف من خلاله كيف كانت حياته -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لكن حسبه أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خلد ذكره بين تلك الكوكبة المباركة من أنبيائه ورسله.
عن الحسن: كان بعد إلياس اليسع -عليهما السلام- فمكث ما شاء الله أن يمكث، يدعوهم إلى الله مستمسكًا بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله -عَزَّ وَجَلَّ- إليه، ثم خلف فيهم الخلوف، وعظم فيهم الأحداث والخطايا، وكثرت الجبابرة، وقتلوا الأنبياء، وقد وَهِمَ البعض؛ فذكروا أن اليسع هو إلياس وليس الأمر كذلك؛ لأن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أفرد كل واحد منهما بالذكر، وهناك من يزعم أن اليسع هو إدريس وليس كذلك؛ لأن إدريس -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- هو جد نوح -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بينما اليسع من أبناء يعقوب.
وقد قيل: إن اليسع ابن عم إلياس أو ابن أخيه، ولعله أقرب من غيره، وقد تميز اليسع منذ صغره بالرشد والحفظ، وكان ينصح قومه ويبين لهم خطأهم وضلالهم؛ فكرهوه وطارده اليهود ليقتلوه، فآوته أم إلياس -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وكان اليسع مريضًا فدعا له إلياس بالشفاء فشفاه الله تعالى. ثم إن إلياس دعاه إلى دينه فآمن به ولازمه أينما ذهب، ثم إن بني إسرائيل ألفوا المعصية فكثرت أنبياؤهم، وتتابعوا عليهم وترادفوا؛ لكنهم في كل مرةٍ ينكصون، هذا حالهم بعد اليسع أيضًا، فإنهم ظلوا يؤمنون بدعوته ويعظمونه حتى قبضه الله تعالى فما إن قبض حتى عادوا إلى الكفر والضلال.
يقول ابن جرير: ثم مرج أمر بنو إسرائيل، وعظمت منهم الخطوب والخطايا وقتلوا من قتلوا من الأنبياء، وسلط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكًا جبارين يظلمونهم، ويسفكون دماءهم، وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم، وكانوا إذا قاتلوا أحدًا من الأعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان فيه قبة الزمان -كما تقدم ذكره- فكانوا ينصرون ببركته، وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية، مما ترك آل موسى وآل هارون، فلما كان في بعض حروبهم من أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم؛ فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان؛ مالت عنقه فمات كمدًا.
وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راعٍ حتى بعث الله فيهم نبيًّا من الأنبياء، يقال له شموئيل؛ فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلوا معه الأعداء، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله تعالى في كتابه. • قال ابن جرير: فكان من وفاة يوشع بن نون إلى أن بعث الله -عَزَّ وَجَلَّ- شموئيل بن بالي أربعمائة سنة وستون سنة.
دعوة داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- • ذكرنا فيما مضى أنه بعد اليسع وإلياس بقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راعٍ حتى بعث الله -عَزَّ وَجَلَّ- نبيًّا من الأنبياء، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا ليقاتلوا معه الأعداء، وفي هذا يقول ابن كثير: كان بنو إسرائيل على طريق الاستقامة مدةً من الزمان ثم أحدثوا الأحداث، وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم على التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا؛ فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، وأسروا خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم بلادًا كثيرة.
وكان لا يقاتلهم أحد إلا غلبوه؛ ذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان، وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم -عليه الصلاة والسلام- فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب. وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم، ولم يبق من سبط "لاوي" الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها، وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم.
ولم تزل المرأة تدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقها غلامًا، فسمع الله لها ووهبها غلامًا فسمته شموئيل، أي: سمع الله دعائي، ومنهم مَن يقول شمعون وهو بمعناه، فأنبته الله تعالى نباتًا حسنًا، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه، وأمره بالدعوة إليه فدعا بني إسرائيل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه أعداءهم، فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألا تقاتلوا، وتفوا بما التزمتم من القتال معه، قالوا: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة: من الآية: 246) أي: وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد، قال تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة: من الآية: 246) أي: ما وفَّوا بما وعدوا، بل نكل عن الجهاد أكثرهم، والله عليم بهم.
وكما تمرد اليهود على وحي الله مع موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- تمردوا عليه بعده، وكثر فيهما كثر من الفتن والعياذ بالله تعالى، ثم قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- يحكي هذه القصة؛ قصةَ أولئك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 246: 248).
قال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت أي: أن يَرُدَّ الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم، وهو -كما قال الزمخشري- صندوق التوراة الذي كان موسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إذا قاتل قَدَّمَهُ؛ فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون كما قال -جَلَّ مِنْ قَائِل- {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ}أي: في ذلك التابوت سكون وطمأنينةٍ ووقارٍ. وفيه أيضًا بقية من آثار، وهي عصا موسى وثيابه، وبعض الألواح التي كُتِبَتْ فيها التوراة تحمله الملائكة.
يقول ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، قال فآمنوا بنبوة شموئيل أو شمعون، وأطاعوا لطالوت، ثم قصَّ الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- علينا قصةَ القتال والاقتتال الذي كان بين هؤلاء وبين أعدائهم، وما قَدَّرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- من النصر لهم حين قال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 250).
ابن كثير يقول: طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر، أي: يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الأبطال وحومة الوغى، والدعاء إلى النزال، فسألوا التثبيت الظاهر والباطن، وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه؛ فأجابهم العظيم القدير، السميع البصير، الحكيم الخبير إلى ما سألوا، وأنالهم ما إليه فيه رغبوا، قال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية: 251) أي: هزموا جيش جالوت بنصر الله وتأييده؛ إجابة لدعائهم، وانكسر عدوهم رغم كثرته وكثرة عدته، {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} (البقرة: من الآية: 251) أي: وقتل داود.
وكان في جيش المؤمنين مع طالوت رأس الطغيان جالوت، واندحر جيشه وهنا يَردُ ذكر داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لأول مرة في السياق؛ كان داود فتىً صغيرًا من بني إسرائيل، وكان جالوت ملكًا قويًّا قائدًا يخافه الناس ويرهبونه، ولكن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها. والحقائق يعلمها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ولهذا قال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} (البقرة: من الآية: 251)، أتى الله -عَزَّ وَجَلَّ- داودَ الملك والنبوة، وعلمه مما يشاء من علمٍ نافعٍ أفاضه عليه.
قال ابن كثير: كان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته، وأن يشاطره نعمته، وأن يشركه في أمره؛ فوفَّى له، ثم آل الملك إلى داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة. • وداود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم جميعًا الصلاة والسلام- تميز بالشجاعة منذ صغره، واشترك -كما قدمنا- في جيش طالوت، وفقه الله تعالى وأسبغ عليه نعمته؛ فقتل داود، وكان عاملًا أساسيَّا في هزيمة جيش العماليق، والقضاء على سلطانهم في بيت المقدس، وأعاد للإسرائيليين وطنهم المفقود؛ ولذا أحبوه، واتخذه طالوت مستشارًا له؛ فكان لا يقضي أمرًا دونه، زوجه ابنته كما وعده مع أنه ليس إسرائيليًّا، وصار في عونه في كل ما قام به؛ فلما مات طالوت انتقل الملك إلى داود، وقدر الله له هذا القدر الطيب، وهو أن يجمع له بين الملك والنبوة.
وداود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- هو أول من جمع بين الملك والنبوة، يقول تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}وقال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (ص: 20) وكان الأمر قبل ذلك أن النبوة في بيت، وأن الملك في بيت آخر، لكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أكرم داود فجعل له الأمرين معًا، وضمَّ لهما القضاء والفصل بين الناس، واختار الله تعالى داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- رسولًا إلى بني إسرائيل فأنزل عليه الزبور. • قال -جَلَّ مِنْ قَائِل- {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (الإسراء: 55).
أيدَ الله تعالى نبيه داود بالمعجزات العديدة؛ لتكون دليل صدقه أمام قومه، ونوه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بذكره في كتابه، فقال -جَلَّ مِنْ قَائِل- بعد أن ذكر نعمه على عبده ومصطفاه داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 17) الأيد: أي القوة في الطاعة، يعني كان ذا قوةٍ في العبادة والعمل الصالح، وهذا مصداق قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سياق آخر: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} (سبأ: من الآية: 13). • قال أبو عبد الرحمن السلمي: الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله -عَزَّ وَجَلَّ- شكر، وأفضل الشكر الحمد.
وقال ابن أبي حاتم عن ثابت البناني: قال كان داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- قد جَزَّأَ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل أو النهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، كان -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يقوم الليل ويصوم نصف الدهر كما أخبر بذلك نبينا -صَلًّى اللُه عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: ((أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ؛ كان يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ؛ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ)).
وقال -صَلًّى اللُه عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه الترمذي، والحاكم عن أبي الدرداء: ((كانَ داودُ أعبدَ البَشِرِ))سخر الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الجبال تسبح مع داود فقال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} (ص: 18، 19) وقال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 99) وقال أيضًا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} (سبأ: 10).
كان الله تعالى وهب لداود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- من الصوت الحسن؛ بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه؛ يقف الطير في الهواء؛ يُرجِّعُ بترجيعه ويردد ويسبح بتسبيحه، وكذا الجبال تجيبه وتتجاوب معه، وتسبح معه كلما سبح بكرةً وعشيًّا. أُعْطِيَ داود من حُسن الصوت ما لم يعط أحدٌ قط. • وكان مما أعطى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لداود أن ألان له الحديد، فكان يفتله بيده كحبل القطن؛ قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (الأنبياء: 80) وقال -جل وعلا-: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْد} (سبأ: 10، 11) أي: كان داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يصنع الدروع من الحديد؛ ليحصن المقاتلة من الأعداء، فأرشده الله إلى صنعها وكيفية ذلك، فقال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْد} (سبأ: 11)، أي: لا تدق المسمار فيغلق، ولا تغلظه فينفصم.
قال الحسن البصري، وقتادة والأعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده لا يحتاج إلى نارٍ ولا مطرقةٍ. قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زَرْدٍ وإنما كانت قبل ذلك من صفائح. وقد ثبت في الحديث: ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده)).
قال ابن كثير: وكان يستغني بثمن الدروع التي يصنعها عن الراتب من بيت مال المسلمين؛ فقيل: إنه كان يبيع الدرع بأربعة آلاف درهم يتصدق بثلثها، ويشري بثلثها ما يكفيه وعياله، ويمسك الثلث يتصدق به يوميًّا إلى أن يعمل غيرها، وأن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أعطاه شيئًا لم يعطه لأحدٍ من قبله كما قال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (ص: 20)، شددنا ملكه: أي قويناه بوفرة العدد والعُدَدِ ونفوذ السلطان وإمداده بالتأييد والنصر، وفصل الخطاب: أي فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل ورفع الشبهة وإقامة الأدلة، وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق، لا يخالفه أحد من أقاربه ولا من الأجانب.
تميز داود بالحكمة والقضاء بين المتخاصمين، وبأنهم كانوا يقصدونه لشدة عدله ودقة فهمه، حتى إنه -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- اعتبر نفسه ظالمًا يوم أن حكم على صاحب الغنم قبل أن يناقش حجته الحقيقية، كما قال الله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب} (ص: 24، 25) تحدثنا الآيات عن معجزاته -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وعن مزاياه، وتبلور لنا دعوته أيضًا، وتحدد لنا ملامح هذه الدعوة نعم، دعا قومه إلى التوحيد، وجدد لهم دعوة موسى، وكان الوحي ينزل عليه بتعاليم الله أبقاه لقومه في كتابه المنزل من عند الله، وهو الزبور.
دعاهم أيضًا إلى الشريعة والعمل الصالح، كما قال -جَلَّ مِنْ قَائِل-: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (سبأ: من الآية: 11) وعلمهم ضرورة الشكل لله -عَزَّ وَجَلَّ- بالقول والفعل، كما هو بالقلب والجَنَان {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}، وكان شديد الإنكار على كل مخالفٍ لحكمِ الله، معتد على حدوده، ظالم لنفسه بشرك أو بفسق أو ببغي، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون} (المائدة 78). • ثم إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهب لداود ولده سليمان؛ لتستمر النبوة وليبقى الملك في ولده كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 30).
ثم إن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أراد أن يختار داودَ؛ فعنِ أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلًّى اللُه عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- قال: ((كان داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فيه غيرةٌ شديدةٌ؛ فكان إذا خرج أغلقت الأبواب؛ فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع، قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار، فأقبلت امرأته تتطلع إلى الدار، فإذا رجلٌ قائمٌ وسطَ الدارِ؛ فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لتفضحن بداود؛ فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار، فقال له داود: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب، فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت؛ مرحبًا بأمر الله، ثم مكث حتى قبضَ روحه؛ فلما غُسِّلَ وكُفن، وفُرغ من شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي داود فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: اقبضي جناحًا؛ قال أبو هريرة: فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرينا كيف فعلت الطير؟ وقبض رسول الله -صَلًّى اللُه عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ- بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية))وهذه المضرحية هي الصقور الطوال الأجنحة، واحدها مضرحي.
قال الجوهري: هو الصقر الطويل الجناح. ويقال: إنه -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- دُفِنَ في بيت لحم, والله تعالى أعلم.
وقفات مع داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- • إن هذه الوقفات تتضمن صورًا من القضاء الذي قضاه داود، كما تتضمن دروسًا يستفيدها الدعاة، وينتفع بها الهداة في كل زمانٍ ومكانٍ، كان داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يباشر القضاء بنفسه، ويقسم أيامه أربعة أقسام، يومًا للعبادة في المحراب، ويومًا يجلس في الديوان للحكم والقضاء، ويومًا للدعوة والإرشاد، ويومًا يخدم فيه نفسه، وكان -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- متميزًا كما ذكرنا في قضائه بالعدل والإنصاف.
وهنا حوادث قصَّ بعضها علينا كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- نحن نريد إشارة إلى ثلاث من تلك القضايا التي أصدر فيها داود حكمًا ثم عدل عنه بعد أن أظهر الله له الحق، وبان له وجه الصواب. من ذلك: حادثة الغنم في يوم عبادة داود فوجئ وهو في المحراب برجلين يدخلان عليه؛ متسورين المحراب ليلًا؛ فزع منهم لأنه تصورهم جاءا لأذيته أو قتله؛ هَمَّ بالدفاع والقتال هدءا من روعه وعرفاه بأنهما خصمان، وأن الخصومة بينهما في غنم، قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (ص: 21) عندها هدأت نفس داود، ذهب عنه روعه، فقال المُدَّعِي: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (ص: 23) قال المُدَّعِي: أراد أخذ نعجتي وغلبني ببلاغته وسلطانه، ويبدو أن المُدَّعَى عليه أقره على ما ادعى فأصدر داود حكمه بعد أن عرف الدعوى، وسمع إقرار المدعى عليه، وكان على داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أن يستقصي في البحث، وأن يتابع السؤال من أين له هذه النعجة الواحدة؛ فلربما أخذها من المدعى عليه، وهذا الذي كان بالفعل حكم داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بعد إقرار المدعى عليه وشعر بأنه تعجل وأدرك أن هذا ابتلاء من الله فاستغفر وخر ساجدًا واستمر على سجوده حتى غفر الله له.
ظهر أن الثاني سرق هذه النعجة من أخيه الأول؛ فأراد الأول أن يأخذ نعجته بحيلة؛ ولذا أقر بالدعوى التي عرضها صاحب النعجة الواحدة، ولم يشر إلى سرقة أخيه للنعجة؛ حياء وخلقًا، تَعَلَّمَ داود من هذا ضرورة الاستقصاء في أمر الدعوة، وهو ما يعرف بالتحري، وسماع الشهود، وأخذ رأي الخُبَرَا؛ ولذا استغفر ربه على تعجله وتاب إلى ربه.
والحادثة الثانية: أنه أقبلت غنم ليلًا على مزرعة ليس معها راعيها فأفسدت الزرع، وأتت عليه؛ فاحتكم أصحاب الزراعة إلى داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يا نبي الله، إنا حرثنا أرضنا وزرعناها وتعهدناها حتى إذا آن أوان حصادها، جاءت غنم هؤلاء القوم ليلًا فانتشرت في زرعنا، وأكلته حتى لم يبقَ منه شيء؛ فقال داود لأصحاب الغنم: أحقًّا ما يقول هؤلاء؟ قالوا: نعم، فقال لأصحاب المزرعة: كم تقدرون ثمنًا لزرعكم؟ فذكروا له الثمن، فقال لأصحاب الغنم: كم تقدرون ثمنًا لغنمكم؟ فذكروا له الثمن؛ رأى داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أن الثمنين متقاربان؛ فقال لأصحاب الغنم: ادفعوا أغنامكم إلى أصحاب المزرعة تعويضًا لهم عن زرعهم، وهذا الحكم يؤدي إلى فقدان أصحاب الغنم لكل شيء، وإلى حصول أصحاب الزرع على الأرض وعلى الغنم معًا. وعندها ألهم الله سليمان بن داود الحكم الصحيح، كما ذكر الله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (الأنبياء: 78، 79) قضى سليمان بأن يقوم أصحاب الأرض برعي الغنم، ويقوم أصحاب الغنم بزراعة الأرض، فإذا ما جاء وقت الحصاد تسلم أصحاب الأرض أرضهم بزرعها، وتسلم أصحاب الغنم غنمهم بتمامها؛ وبذا يأخذ كل طرف حقه كاملًا.
فإن قيل: فما بال أصحاب الأرض يرعون الغنم لأصحابها، نقول: يرعونها ويأخذون صوفها ولبنها ونتاجها؛ جزاء عملهم، وعندها رضي الجميع بهذا الحكم وسعد به داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وحكم به وعاد عن حكمه الأول. • وحادثة ثالثة: وهي حادثة التنازع حول الولد حيث كان لامرأتين ولدان؛ فجاء الذئب وأخذ أحدهما فتنازعا حول الثاني، كلًّا منهما تريده لنفسها فاحتكما إلى داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فحكم به للكبرى؛ فاستأذن سليمان أباه وأتى بالمرأتين، وقال لهما: هاتوا سكينًا أشقه بينكما نصفين؛ فوافقت الكبرى ورفضت الصغرى وانزعجت، وقالت: يرحمك الله هو ابنها اعطه لها، لا تشقه؛ فحكم به للصغرى؛ لأنه عرف أنها أمه؛ فرجع داود عن حكمه، وحكم بما رآه ولده سليمان.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كانت امرأتان معهما ابناهما؛ جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك؛ فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها؛ فقضى به للصغرى)). • حكم داود للكبرى؛ لأن الولد كان في يدها، وليس مع الصغرى بينة وهذا جاء على القواعد الشرعية، أما سليمان: فقد احتال بحيلة لطيفة أظهرت ما في نفس كل منهما، وهذا يعلم الحاكم والقاضي ألا يتسرع في حكمه وأن يحافظ على الحقوق، وأن يكون فطنًا ليكتشف الحقيقة بالأسئلة المتعددة؛ ليتمكن من الوصول إلى الحق، وليعلم الجميع أن العدل أساس الملك، وبه تدوم السعادة ويتحقق الرشاد للجميع.
ومن ركائز الدعوة في قصة داود ما رأيناه من شجاعته وبسالته وإقدامه على القتال تارة، وعلى الرجوع عن الخطأ تارة أخرى؛ فلا شك أن البسالة والشجاعة في أرض المعارك والجهاد لا تقل عنها بحال الشجاعة في رد الخطأ، وإصلاح الخلل، والتنازل عن القول، ورد الحكم إذا لم يوافق الصواب، هذا داود -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يعلم الداعية أن يكون شجاعًا؛ إذا أخطأ أن يرجع وإذا تهور أن يستعتب، وألا يندفع اندفاعًا لا يظهر فيه مصلحة، ولا تتحقق منه فائدة.